أَصبَح التَّعْليم فِي العصْر اَلحدِيث حجر الزَّاوية فِي نَهضَة اَلأُمم، لَا بِاعْتباره وَسِيلَة لِنَقل المعْرفة والْمهارات فحسْب، بل بِوصْفه مَنظُومة مُتكاملة تُعنَى بِتكْوِين شَخصِية الإنْسان وصياغة وَعيهِ، وغرْس المبادئ اَلتِي تَضمَن تَماسُك المجْتمع واسْتدامة مسيرته. وَمِن هذَا المنْطلق، فَإِن دَمْج اَلبُعد الأخْلاقيِّ فِي مُقررَات مُؤسسَات التَّعْليم العالي يُمثِّل أحد المسارات الجوْهريَّة اَلتِي تُعزِّز جَودَة التَّعْليم، وَتَرسَّخ دَورُه فِي تَحقِيق الهدف الرَّابع مِن أَهدَاف التَّنْمية المسْتدامة، اَلذِي يُنَادِي بِتوْفِير تَعلِيم جيِّد، مُنْصِف، وَشامِل، وَتعزِيز فُرَص التَّعَلُّم مدى الحيَاة لِلْجميع.

لَقد أَثبَتت التَّجارب الدَّوْليَّة أنَّ اَلبُعد الأخْلاقيَّ لَا يَعُد ترفًا تَربوِيا أو إِضافة شكْليَّة، بل هُو عُنصُر أصيل فِي بِنَاء الإنْسان الجامعيِّ، وَرافِعة أَساسِية لِتحْقِيق التَّنْمية المسْتدامة. فَفِي فِنْلنْدا، على سبيل المثال، اِعتمَد المنْهج الوطَنيُّ مَا يُعرَف ب Core Curriculum Values، حَيْث جَعلَت القيم والْأخْلاق جُزْءًا لَا يَنفَصِل عن اَلْمَواد الدِّراسيَّة كافَّةً. هذَا الدَّمْج أَوجَد بِيئة تعْليميَّة يسودهَا الشُّعور بِالْمسْؤوليَّة والانْتماء، وَعُمق لَدى الطُّلَّاب الوعْي بِدوْرِهم المجْتمعيِّ. وَفِي كُورْيَا الجنوبيَّة، أَنشَأت الجامعات أقْسامًا خَاصَّة تُعنَى بِالْبعْد الأخْلاقيِّ، واهْتَمَّتْ بِتدْرِيب أَعضَاء هَيئَة التَّدْريس على إِدمَاج المبادئ الإنْسانيَّة فِي التَّدْريس، مِمَّا أَفرَز مُخرجَات تعْليميَّة قَادِرة على الجمْع بَيْن الكفاءة المهْنيَّة والالْتزام الأخْلاقيِّ. أَمَّا سنْغافورة، فقد وَضعَت برْنامجًا وطنيًّا تَحْت عُنْوان “Character and Citizenship Education”، يَقُوم على المزْج بَيْن تَدرِيس مُقرَّر مُسْتَقِل وَتضمِين اَلبُعد الأخْلاقيِّ فِي جميع التَّخصُّصات. وقد أَظهَرت الإحْصاءات هُنَاك أنَّ هَذِه الاسْتراتيجيَّة أَسهَمت فِي خَفْض مُعدلَات السُّلوكيَّات السَّلْبيَّة فِي الجامعات، وزادتْ مِن مُشَاركَة الطَّلَبة فِي المبادرات الوطنيَّة والْأنْشطة التَّطوُّعيَّة.

إِنَّ مِصرَ، بِمَا تَمتلِكه مِن ثِقْل حَضارِي ومجْتمعيٍّ، مَدعُوة اليوْم إِلى بَلورَة نَمُوذَج وَطنِي لِلْبعْد الأخْلاقيِّ فِي مُؤسسَات التَّعْليم العالي. يُمْكِن أن يَبدَأ هذَا النَّموذج بِإنْشَاء مُقرَّر مُسْتَقِل بِعنْوَان “اَلبُعد الأخْلاقيِّ والتَّنْمية المسْتدامة”، يَهدِف إِلى تَعرِيف الطُّلَّاب بِالْقِيم الإنْسانيَّة اَلكُبرى مِثْل العدالة، المساواة، حُقُوق الإنْسان، حِماية البيئة، والْوَعْي بِالْمواطنة. ولَا يَكتَفِي فِي هذَا اَلمُقرر بِالْمحاضرات النَّظريَّة، بل تَعتَمِد آليَّات تعْليميَّة تفاعليَّة كالْحوار، دِراسة الحالات، والْمشْروعات التَّطْبيقيَّة اَلتِي تَربُط الطَّالب بِمجْتمعه المحَلِّيِّ وتجْعَله جُزْءًا مِن مُعَادلَة التَّنْمية.

غَيْر أنَّ الاقْتصار على مُقرِّر مُنْفَصِل قد لَا يُحقِّق التَّكامل المطْلوب؛ وَمِن ثمَّ فَإِن تَوسِيع نِطَاق المشْروع لِيشْمل دَمْج اَلبُعد الأخْلاقيِّ فِي المقرَّرات كافَّةً، سَوَاء فِي اَلعُلوم التَّطْبيقيَّة أو الإنْسانيَّة، يُعَد ضَرُورَة مُلحَّةً. ويتطَلَّب ذَلِك تَدرِيب أَعضَاء هَيئَة التَّدْريس وَتطوِير كِفاياتهم التَّرْبويَّة مِن خِلَال وِرش عمل ودوْرَات تأْهيليَّة، بِمَا يُمْكنهم مِن إِدخَال هَذِه القيم ضِمْن خُطَط التَّدْريس وأساليب التَّقْويم. كمَا يَستدْعِي الأمْر إِعدَاد مَوَاد تعْليميَّة داعمَة، تَتَكامَل مع مُحتَوَى المقرَّرات الأصْليَّة وَتبرِز أنَّ الأخْلاق لَيسَت مجالا معْزولاً، وَإِنمَا هِي إِطَار جَامِع يَضبُط الممارسة العلْميَّة والْمهْنيَّة.

تُؤكِّد الدِّراسات التَّرْبويَّة الحديثة الأثر البالغ لِمثْل هَذِه المبادرات. فوفْقًا لِتقْرِير مُنَظمَة اليونسْكو لِعَام 2022، فَإِن الجامعات اَلتِي دَمجَت اَلبُعد الأخْلاقيَّ فِي مناهجهَا شَهدَت تحسُّنًا مَلحُوظا فِي السُّلوكيَّات الطُّلَّابيَّة، وزيادة فِي الوعْي بِالْمسْؤوليَّة الاجْتماعيَّة. كمَا أشارتْ دِراسة مُقَارنَة بَيْن طَلبَة جامعيِّين فِي سنْغافورة وكورْيَا الجنوبيَّة إِلى أنَّ إِدرَاج اَلبُعد الأخْلاقيِّ فِي التَّعْليم سَاعَد على تَقلِيص مَظاهِر اَلغِش الأكاديميِّ، ورفْع مُستَوَى الالْتزام بِالْقِيم المهْنيَّة بَعْد التَّخرُّج.

إِنَّ إِدمَاج اَلبُعد الأخْلاقيِّ فِي مُؤسسَات التَّعْليم العالي فِي مِصْر سَيعُود بِالنَّفْع المباشر على المجْتمع والدَّوْلة. فَهُو مِن جِهة يَرفَع مِن مُستَوَى جَودَة التَّعْليم الجامعيِّ، وَمِن جِهة أُخرَى يُؤهِّل الخرِّيجين لِيكوِّنوا عَناصِر فَاعِلة فِي التَّنْمية، يجْمعون بَيْن المعْرفة العميقة والْوَعْي الأخْلاقيِّ، وَهُو مَا تحْتاجه الدَّوْلة فِي سعْيهَا لِتحْقِيق رُؤْيتِهَا لِلتَّنْمية المسْتدامة 2030.

وَعليْهِ، فَإِن المشْروع المقْترح لَيْس مُجرَّد تَوصِية أكاديميَّة، وَإِنمَا رُؤيَة اِسْتراتيجيَّة تمسُّ جَوهَر الإصْلاح التَّعْليميِّ فِي مِصرَ. وَمِن هذَا المنْطلق، نَتَوجَّه بِنداء إِلى فَخامَة اَلرئِيس عَبْد الفتَّاح السِّيسي، اَلذِي جعل مِن بِنَاء الإنْسان اَلمصْرِي مِحوَرا رَئيسِيا فِي مَشرُوعه الوطنيِّ، وَإلَى مَعالِي وزير التَّعْليم العالي والْبَحْث العلْميِّ، لِدَعم هذَا التَّوَجُّه وتبنِّيه فِي الاسْتراتيجيَّات والسِّياسات الجامعيَّة. أنَّ دَعْم القيادة السِّياسيَّة لِهَذا المشْروع سيجْعل مِن مُؤسسَات التَّعْليم العالي رَافِعة حَقيقِية لِلتَّنْمية، وميْدانًا لِإعْدَاد أَجيَال مُسَلحَة بِالْعِلْم ومحصَّنة بِالْأخْلاق.

إِنَّ دَمْج اَلبُعد الأخْلاقيِّ فِي التَّعْليم العالي يُمثِّل خُطوَة مَفصلِية على طريق التَّنْمية المسْتدامة. فَهُو يَضمَن بِنَاء شَخصِية طُلَّابِيَّة مُتكاملة، قَادِرة على التَّفْكير النَّقْديِّ، اِتِّخاذ القرارات المسْؤولة، والانْخراط بِفعَّاليَّة فِي قضايَا الوطَن. كمَا أَنَّه يُرسِّخ اَلهوِية الوطنيَّة، ويعزِّز اِنتِماء الشَّبَاب لِوطنهمْ، ويهيِّئهم لِلانْفتاح على العالم مِن مَوقِع اَلقُوة والثِّقة. إِنَّ مِصرَ، وَهِي تَخطُو بِثبات نَحْو المسْتقْبل، لَن تَستطِيع بُلُوغ مَا تَصبُو إِلَيه مِن نَهضَة شَامِلة مَا لَم تَجعَل مِن اَلبُعد الأخْلاقيِّ جُزْءًا أصيلا فِي منْظومتهَا التَّعْليميَّة. وَبِهذَا وَحدِه يَتَحقَّق تَوازُن العلم والضَّمير، وتكْتَمل مُعَادلَة التَّنْمية، وَيُبنَى الوطن على أُسُس صُلبَة مِن المعْرفة والْأخْلاق معًا.

Scroll to Top