
لَم يَكُن خِطَاب اَلرئِيس عَبْد الفتَّاح السِّيسي فِي اَلقِمة الإسْلاميَّة الطَّارئة بِالدَّوْحة، يَوْم الإثْنيْنِ 15 سِبْتمْبر 2025، مُجرَّد كَلمَة دِبْلوماسيَّة عابرَة، بل نصٌّ سِياسيٌّ مُكْتَمِل الأرْكان، يَكشِف عن كَيفِية تَوظِيف اَللغَة لِتشْكِيل مَوازِين اَلقُوة وَتوجِيه الرَّأْي اَلْعام العرَبيِّ والْإسْلاميِّ والدَّوْليِّ. مِن خِلَال أَدوَات التَّحْليل اَلنقْدِي لِلْخطاب، يُمْكِن أن نرى بِوضوح كَيْف أَعَاد فَخامَة الرَّئيس صِياغة المشْهد الإقْليميِّ، وكيْف جمع بَيْن الصَّرامة اللُّغويَّة والرُّؤْية السِّياسيَّة فِي لَحظَة شَدِيدَة الحساسية.
اِخْتَار فَخامَة الرَّئيس أن يَبدَأ كَلِمتَه بِالْبسْملة، وَهُو اِختِيار لَه دَلالَة دِينيَّة وَروحِية تَتسِق مع طَبِيعَة اَلقِمة الإسْلاميَّة. لَكنَّه لَم يَتَوقَّف عِنْد ذَلكَ، بل تَوجَّه مُبَاشرَة بِكلمَات التَّقْدير إِلى الشَّيْخ تميم بْن حمد آل ثاني، وَإلَى قطر على اِسْتضافة القمَّة. هذَا الافْتتاح وَضْع خِطابه فِي إِطَار شَرعِي وأخْلاقيٍّ يجْعله تعْبيرًا عن إِرادة جَماعِية لَا موْقفًا فرْديًّا. فَهُو لَا يَتَحدَّث بِلسان مِصْر فقطْ، بل بِلسان اَلأُمة كُلِّها. هَذِه الصِّياغة المبكِّرة مَنحَت خِطابه قُوَّة رمْزيَّةً، وأكَّدتْ أنَّ القاهرة تَقِف فِي قَلْب المعادلة لَا على هامشها.
مَا يَلفِت النَّظر هُو كَثافَة العبارات اَلقوِية اَلتِي اِسْتخْدمهَا فَخامَة الرَّئيس لِوَصف العدْوان الصَّهْيونيِّ. تَحدَّث عن “العدْوان اَلآثِم”، “اِنتِهاك جسيم”، “سُلُوك مُنْفَلِت”، “الغطْرسة اَلآخِذة فِي التَّضَخُّم”. هَذِه لَيسَت مُجرَّد توْصيفات عابرَة، بل بِنَاء لُغَوي مَقصُود يَهدِف إِلى عَزْل الكيَان الصَّهْيونيِّ أخْلاقيًّا وتجْريده مِن أيِّ شَرعِية سِياسيَّة. التَّحْليل اَلنقْدِي لِلْخطَاب يَكشِف هُنَا عن اِسْتراتيجيَّة مُتعمَّدة: كُلمَا كَانَت اَللغَة صارمَةً، كُلمَا تَحولَت الكلمات إِلى أَدَاة رَدْع تَوازِي فِي أَثرِها اَلقُوة المادِّيَّة.
أحد أهم محاور الخطاب هو استخدام صيغة الجمع بشكل متكرر: “نقف جميعاً”، “مصالحنا المشتركة”، “رسالتنا اليوم واضحة”. هذا الأسلوب يعيد تشكيل الهوية الجماعية للعرب والمسلمين في مواجهة الآخر المعتدى. في خطاب فخامة الرَّئيس، “نحن” تمثل الأمة العربية والإسلامية التي تتحرك بوحدة المصير، بينما “هم” تمثل الكيان الصهيوني الذي خرج عن القانون والأعراف الدولية. بهذا التقسيم يعيد الخطاب تعريف موازين القوى على المستوى الرمزي: العرب أصحاب الشرعية، وإسرائيل المعتدية المعزولة.
فِي مَقطَع لَافت، يَقُول فَخامَة الرَّئيس: “فلَا تسْمحوا بِأن تَذهَب جُهُود أسْلافنَا مِن أَجْل السَّلَام سُدَى”. هُنَا يُوظِّف فَخَامتَه التَّاريخ بِاعْتباره مَرجعِية أخْلاقيَّة تَحمِل الحاضر مسْؤوليَّة الاسْتمْرار. هَذِه الصِّياغة تَجعَل المسْتمعين أَمَام اِلتِزام تاريخيٍّ لَا يُمْكِن التَّهَرُّب مِنْه: إِمَّا أن يسْتكْملوا مَسِيرَة أسْلافهمْ، أو يتحمَّلوا وِزْر التَّفْريط فِي إِنْجازاتهمْ. التَّحْليل اَلنقْدِي لِلْخطَاب يُوضِّح كَيْف يَستخْدِم فَخامَة الرَّئيس التَّاريخ لِيضيف وزْنًا أخْلاقيًّا وسياسيًّا على دَعوَتِه لِلْوحْدة.
مِن أَبرَز سِمَات الخطَاب أَنَّه لَم يَقتَصِر على التَّحْذير مِن أَخطَار العدْوان، بل قَدَّم رُؤيَة لِلْحلِّ. فَخامَة الرَّئيس يُحذِّر مِن “دَوَّامة خَطِيرَة مِن التَّصْعيد”، لَكنَّه فِي الوقْتِ نَفسِه يَفتَح أُفُقا مِن الأمل عَبْر اَلحدِيث عن “مُؤتَمَر حلِّ الدَّوْلتيْنِ” والدَّعْوة لِلاعْتراف اَلفوْرِي بِدوْلة فِلسْطِين المحْتلَّة. هَذِه المزاوجة بَيْن الرَّدْع والرَّجاء تَمنَح الخطَاب طابعًا قِياديًّا، فَهُو لَا يَكتَفِي بِتشْخِيص الأزْمة، بل يَطرَح مسارًا لِلْخروج مِنهَا.
بعيدًا عن لُغَة البيانات الرَّسْميَّة الجامدة، تَميَّز خِطَاب فَخامَة الرَّئيس بِاسْتخْدام صُوَر بَلاغِية تَنشَط الخيَال السِّياسيَّ. فعنْدَمَا يَقُول “الغطْرسة اَلآخِذة فِي التَّضَخُّم”، يَرسُم صُورَة ذِهْنيَّة لِممارسات الكيَان الصَّهْيونيِّ ككيان يَتَضخَّم بِلَا ضَابِط حَتَّى يَصِل إِلى لَحظَة الانْفجار. وعنْدَمَا يَتَحدَّث عن “أَجوَاء الصِّرَاع” و “دَوَّامة التَّصْعيد”، فَإنَّه يَحُول الخطر إِلى صُورَة حِسِّية مَلمُوسة يفْهمهَا المتلقِّي العاديُّ قَبْل الخبير. هذَا التَّوْظيف لِلُّغة يَجعَل الخطَاب سِياسِيًّا وَفِي الوقْتِ نَفسِه مُقْنِعا لِجمْهور واسع.
وفْقًا لِمنْظور Teun A. van Dijk فِي تَحلِيل الخطَاب السِّياسيِّ، يَعُد “إِعادة تَوزِيع الأدْوار” بَيْن الفاعلين أحد أهمِّ أَهدَاف الخطاب. عِنْد تَحلِيل كَلمَة فَخامَة الرَّئيس فِي قِمَّة الدَّوْحة، يَتضِح أنَّ الكيَان الصَّهْيونيَّ يُقدِّم فِي مَوقِع الفاعل المعْتدي، الخارج عن القواعد القانونيَّة الدَّوْليَّة، بيْنمَا يُوضَع العرب والْمسْلمون فِي موْقعَيْنِ مُتوازييْن: ضحايَا لِانْتهاكات العدْوان، وفاعلين يمْتلكون زِمَام المبادرة فِي آن واحد. وَفِي المقابل، يُخَاطِب المجْتمع اَلدوْلِي بِصفة طرف ثَالِث يَتَحمَّل ” مسْؤوليَّاته الأخْلاقيَّة والْقانونيَّة “، بِمَا يَعكِس تحْميله دوْرًا إِلْزاميًّا فِي ضَبْط التَّوازن وحماية الشَّرْعيَّة الدَّوْليَّة. مِن خِلَال هذَا التَّوْزيع الجديد، يَسعَى الخطَاب إِلى إِعادة صِياغة قَواعِد التَّفاعل، بِحَيث لَا يَختَزِل العرب فِي مَوقِع الاسْتقْبال السَّلْبيِّ، وَإِنمَا يُعَاد تقْديمهم كفاعلين رئيسيِّين فِي رَسْم مَلامِح المشْهد السِّياسيِّ الإقْليميِّ والدَّوْليِّ.
الخطَاب لَم يَقتَصِر على القضايَا الإسْتراتيجيَّة، بل رَكَّز أيْضًا على المعاناة الإنْسانيَّة. تَحدَّث فَخامَة الرَّئيس عن “عَشَرات الآلَاف مِن الضَّحايَا المدنيِّين الأبْرياء”، وَرفَض “سِياسة العقَاب الجماعيِّ والتَّجْويع”. هذَا اَلبُعد الإنْسانيِّ يَجعَل الخطَاب أَكثَر تأْثيرا، لِأَنه يَربُط السِّياسة بِالْحياة اليوْميَّة لِلنَّاس، ويجْعل اَلقضِية الفلسْطينيَّة لَيسَت مُجرَّد مِلفٍّ تفاوضيٍّ، بل قَضيَّة أخْلاقيَّة تمسُّ اَلضمِير الإنْسانيَّ.
فِي خِتَام كَلمتِه، شَدَّد فَخامَة الرَّئيس على أنَّ “إِنَّنا أَمَام لَحظَة فَارِقة”. هذَا التَّعْبير يَعكِس وعْيًا بِخطورة المرْحلة، لَكنَّه فِي الوقْتِ نَفسِه يَحُول اَلقِمة إِلى مِنَصة لِإعادة تَعرِيف المسْتقْبل. اَلحدِيث عن “آليَّة عَرَبيَّة إِسْلاميَّة لِلتَّنْسيق والتَّعاون” يَعنِي أنَّ الخطَاب لَم يَكُن مُجرَّد ردِّ فِعْل على عُدْوان، بل إِعْلانًا عن رُؤيَة اِسْتراتيجيَّة طَوِيلَة المدَى.
خِطَاب فَخامَة الرَّئيس فِي قِمَّة الدَّوْحة جَسَّد مزيجًا فريدًا مِن الصَّرامة اللُّغويَّة والْوضوح السِّياسيِّ. هُو نصٌّ لَم يَكتَف بِإدانة العدْوان، بل أَعَاد تَشكِيل اَلهوِية الجماعيَّة لِلْعرب والْمسْلمين، واسْتحْضر التَّاريخ لِإلْزَام الحاضر، وَقدَّم رُؤيَة مُسْتقْبليَّة واضحَةً. قُوتُه لَا تَكمُن فقط فِيمَا قاله، بل فِي الطَّريقة اَلتِي قال بِهَا: لُغَة مُباشرة، صُوَر قويَّة، تَوازُن بَيْن التَّحْذير والْأمل، وربْط بَيْن الشَّرْعيَّة الدَّوْليَّة والْهويَّة العربيَّة الإسْلاميَّة.
بِهَذا الخطاب، أَكَّد فَخامَة الرَّئيس فِي كَلمَتِه أنَّ مِصْر لَيسَت مُراقِبًا مِن بعيد، بل لَاعِب رَئيسِي يَقِف فِي قَلْب المشْهد، يَقُود ويوجِّه ويرْفض التَّبعيَّة. خِطابه تَجاوُز حُدُود الدِّبْلوماسيَّة التَّقْليديَّة، لِيعيد رَسْم دَوْر مِصْر ومكانتها، ويمْنح اَلقضِية الفلسْطينيَّة دُفعَة جَدِيدَة فِي لَحظَة فارقَة، مُؤَكدا أنَّ مِصْر سَتظَل مَركَز الثِّقل الإقْليميِّ اَلذِي تَبنَّى عليْه حِسابَات المنْطقة.
حِفْظ اَللَّه مِصْر ورئيسهَا ٱلْجَسُورُ ٱلْمِقْدَامُ، حَارِس السِّيادة ودرْع الكرامة، وَسنَد اَلأُمة العربيَّة فِي مواقفهَا المصيريَّة، وَشَعبهَا العريق. وأبْقى اَلأُمة العربيَّة حِصْنًا لِلْكرامة والسِّيادة، لِتَظل رايتَهَا عاليَةً، وشعوبهَا آمنة مُطمْئنةً، تَنعَم بِالْأَمْن والسَّلام والاسْتقْرار.