هل تُعيد جَامِعة أَسيُوط الحيَاة إِلى أَذرعِها اللُّغويَّة؟

profartic21312ls

هل تُعيد جَامِعة أَسيُوط الحيَاة إِلى أَذرعِها اللُّغويَّة؟

تَعُد جَامِعة أَسيُوط مِن أَعرَق الجامعات المصْريَّة، وَمِن أَبرَز القلَاع العلْميَّة فِي صعيد مِصرَ، إِذ اِمْتدَّ عَطَاؤهَا عَبْر سَبعَة عُقُود قَدمَت خِلالَهَا أجْيالا مِن الخرِّيجين والْباحثين، وَأَسهمَت فِي تَشكِيل المشْهد الثَّقافيِّ والْعلْميِّ فِي الجنوب. غَيْر أنَّ بَعْض وحداتهَا الأكاديميَّة تَبدُو اليوْم وَكَأنهَا غَابَت قليلا عن وهج اَلحُضور والتَّأْثير، بعْدمَا كَانَت يوْمًا مِن أَنشَط مُكوِّناتهَا وأكْثرهَا اِتِّصالا بِالْمجْتمع المحَلِّيِّ.

​ وَفِي مُقَدمَة هَذِه الوحدات، يُبْرِز مَركَز اَللغَة الإنْجليزيَّة ومرْكز التَّرْجمة والْبحوث اللُّغويَّة بِكلِّيَّة الآداب؛ وَهمَا مُؤسَّستان عريقتان تمْتلكان تاريخًا عِلْميًّا مُشرِّفا، لَكِن أداءهمَا الرَّاهن لَم يَعُد يُوَازِي مَا تُتيحه لَهمَا إِمْكاناتهمَا البشريَّة والْعلْميَّة. فَقْد تَأسَّس مَركَز اَللغَة الإنْجليزيَّة عامٌّ 1990 بِالتَّعاون مع اَلمجْلِس الثَّقافيِّ البريطانيِّ لِيكون بَوَّابة لِلتَّواصل الحضاريِّ وَتنمِية المهارات اللُّغويَّة، فِيمَا أُنْشِئ مَركَز التَّرْجمة عام 1997 دعْمًا لِلْبحْث اَلعلْمِي وَخِدمَة لِحركة التَّرْجمة الأكاديميَّة والثَّقافيَّة.

ومع أنَّ مَسِيرَة المرْكزيْنِ مَا زَالَت قائمَة، فَإِن اَلمُطلع المتأمِّل يَلحَظ حَاجَة مَاسَّة إِلى تَحدِيث وَتوسِيع فِي نِطَاق العمَل، بِحَيث يَنتَقِل النَّشَاط مِن حُدُود الجامعة إِلى فَضائِها المجْتمعيِّ الأوْسع. فالدَّوْرات تَقدُّم بَيْن حِين وآخر، والْإعْلانات تَصدُر بِانْتظامً، غَيْر أنَّ أَثرَها فِي المجْتمع لَا يَزَال محْدودا، مَا يُشير إِلى ضَرُورَة إِعادة النَّظر فِي آليَّات أَدَاء الرِّسالة التَّعْليميَّة والْخدْميَّة لِهَذه المراكز.

وَمِن الإنْصاف القوْل إِنَّ إِدارَات الجامعة المتعاقبة حَرصَت على بَقَاء هَذِه الوحدات حَيَّة وفاعلةً، إِلَّا أنَّ نمط الأدَاء التَّقْليديِّ لَم يُعَد كافيًا فِي عَالَم تَتَسارَع فِيه وَتِيرَة المعْرفة وتتبَدَّل فِيه طُرُق التَّعْليم وأساليبه. فالْمسْألة هُنَا لَا تَتصِل بِالْجهْد البشَريِّ فقطْ، بل تَحْتاج إِلى فِكْر مُؤَسسِي يَتسِم بِالابْتكار والْمرونة والْقدْرة على التَّواصل مع الواقع المتحوِّل. إِنَّ تَطوِير المراكز الجامعيَّة لَا يُكوِّن بِمجرَّد المحافظة على نشاطها، بل بِتحْويلهَا مِن وَحَدات تقْديميَّة إِلى مِنصَّات إِنْتاجيَّة تَرتَبِط بِالْمجْتمع وتلبِّي اِحْتياجاته.

وَلعَل أَنسَب السُّبل لِذَلك هُو فَتْح آفاق جَدِيدَة أمامها؛ بِأنَّ يَتَبنَّى مَركَز اَللغَة الإنْجليزيَّة نَمُوذَج التَّعْليم اَلمُدمج اَلذِي يَجمَع بَيْن اَلحُضور والتَّدْريب الإلكْترونيِّ، وأن يُوسِّع مِن نِطَاق خِدْماته لِتشْمل طُلَّاب الجامعة وأفْرَاد المجْتمع معا، فِيمَا يُمْكِن لِمرْكز التَّرْجمة أن يُطوِّر بَرامِجه التَّدْريبيَّة لِتأْهِيل المترْجمين المتخصِّصين فِي المجالات الطِّبِّيَّة والْقانونيَّة وَسائِر التَّخصُّصات اَلتِي يتطلَّبهَا سُوق العمل المعاصر، وَتقدِيم خِدْمَات تَرجمَة واسْتشارات لُغَويَّة مُؤسَّسِيَّة تَدِر عائدًا مَعرفِيا واقْتصاديًّا لِلْجامعة.

إِنَّ هَذِه الخطوات التَّطْويريَّة تَتسِق تَمَام الاتِّساق مع رُؤيَة مِصْر 2030 اَلتِي تُعْلِي مِن شَأْن بِنَاء الإنْسان المصْريِّ، وَتضَع التَّعْليم واللُّغة فِي صميم أهْدافهَا التَّنْمويَّة المسْتدامة. وَهِي أيْضًا تَجسِيد عَملِي لِلرُّؤْية الثَّاقبة اَلتِي يُوجِّه إِليْهَا فَخامَة اَلرئِيس عَبْد الفتَّاح السِّيسي، إِذ يُؤكِّد دائمًا أنَّ النَّهْضة الحقيقيَّة لَا تَقُوم إِلَّا على الإنْسان الواعي المتسلِّح بِالْعِلْم والْمعْرفة، القادر على التَّواصل مع العالم بِلغة اَلعصْرِ.

وَمِن هذَا المنْطلق، فَإِن تَطوِير مَراكِز اَللغَة والتَّرْجمة لَا يَتَحقَّق بِوصْفه مَشرُوعا جَامعِيا فحسْب، بل هُو إِسهَام مُبَاشِر فِي تَحقِيق أَهدَاف التَّنْمية المسْتدامة، ولَا سِيَّما الهدف الرَّابع اَلمعْنِي بِتوْفِير تَعلِيم جَيِّد وَمنصِف وَشامِل لِلْجميع، بِمَا يُرسِّخ مَبدَأ تَكافُؤ اَلفُرص فِي اِكتِساب المهارات والْمعْرفة، خَاصَّة فِي صعيد مِصْر حَيْث تَعُد اللُّغَات الأجْنبيَّة مِفْتاحًا لِكَسر دَائِرة البطالة الشَّبابيَّة وَتمكِين المجْتمعات المحلِّيَّة مِن فُرَص سُوق العمل التَّنافسيِّ. فالْجامعات اَلتِي تَتَبنَّى هذَا النَّهْج تُصْبِح شريكًا فاعلا فِي بِنَاء الجمْهوريَّة الجديدة، لَا مِن حَيْث البنْيان المادِّيُّ، بل مِن حَيْث تَنمِية الوعْي والْقدْرة الإبْداعيَّة وصناعة الإنْسان القادر على قِيادة المسْتقْبل.

تَحقِيق هذَا التَّحوُّل، لَا يُلْزِم سِوى قَرَار واعٍ يَستشْعِر القيمة اَلكُبرى لِهَذه المراكز، ويؤمِّن بِضرورة بثِّ رُوح جَدِيدَة فِي مفاصلهَا الأكاديميَّة والْإداريَّة على السَّواء. فالتَّطْوير لَا يَعنِي الملامة، ولَا يَستهْدِف اِسْتبْدال الأشْخاص، بل تَوسِيع اَلأُفق وإطْلَاق الطَّاقات. قليل مِن المبادرة وكثير مِن الإخْلاص كفيلَان بِأن يُعيدَا لِمراكز اَللغَة والتَّرْجمة مكانتهَا اللَّائقة، وأن يجْعلَا مِنهَا نموذَجًا لِلْمؤسَّسات الجامعيَّة الرَّائدة، اَلتِي تُسْهِم بِفاعليَّة فِي خِدْمَة التَّنْمية بِصعيد مِصرَ، وتدْعم جُهُود الدَّوْلة فِي بِنَاء الإنْسان وَتنفِيذ توْجيهات فَخامَة اَلرئِيس عَبْد الفتَّاح السِّيسي نَحْو تَرسِيخ مَعالِم الجمْهوريَّة الجديدة

وعندئذٍ، ستصبح جامعة أسيوط، التي لم تتخلّ يومًا عن رسالتها الوطنية،  قادرة على أن تُضرَب بها الأمثال في الجمع بين الأصالة والتجديد، وبين الجذور الراسخة والطموح المستقبلي. فتجديد الروح لا يحتاج إلى لومٍ أو عتاب، بل إلى يقينٍ بأن البذرة الصالحة، متى وُجدت الأرض الخصبة والرعاية الصادقة، سرعان ما تؤتي ثمارها علمًا وتنمية، وتُزهِر تحت شمس مصر الجديدة.