
التَّعليم العالي هو العصب الحقيقيُّ لأيِّ دولة حديثة، وهو البوَّابة الأساسيَّة للنَّهضة والتَّنمية. ولم يعد بالإمكان الاكتفاء بالأساليب التَّقليديَّة في إدارته أو تطويره، فالمتغيِّرات المتلاحقة الَّتي يشهدها المجتمع المصريُّ والمجتمعات العربيَّة، تفرض علينا إعادة التَّفكير في أنماط التَّعاون والتَّكامل بين مختلف الكيانات التَّعليميَّة. لم تعد الجامعة جزيرةً معزولةً، بل صارت جزءًا من منظومة وطنيَّة للتَّنمية ينبغي أن تشترك فيها الجامعات الحكوميَّة والخاصَّة ومؤسَّسات المجتمع المدنيِّ.
في قلب هذا السِّياق الوطنيِّ المتغيِّر، تأتي جامعة أسيوط باعتبارها إحدى أعرق الجامعات المصريَّة وأكثرها حضورًا في الصَّعيد، بما تمتلكه من خبرات أكاديميَّة، وكفاءات بشريَّة، وإمكانات بحثيَّة. وإلى جوارها تنمو جامعات خاصَّةً تطرح برامج عصريَّةً، وتستجيب لحاجات سوق العمل، وتعمل وفقًا لنظم إداريَّة أكثر مرونة. هذا التَّلاقي الجغرافيِّ والوظيفيِّ يتيح فرصةً ثمينةً لبناء شراكة متكاملة تقوم على تبادل الإمكانيَّات، وتوحيد الرُّؤى، وتعظيم الأثر.
النَّموذج الَّذي نطرحه لا يدعو إلى دمج إداريّ أو تبعيَّة مؤسَّسيَّة، بل يركِّز على تنسيق استراتيجيّ مرن، تتعاون فيه الجامعات الحكوميَّة والخاصَّة في مجالات محدَّدة مثل التَّدريب العمليِّ، تطوير المناهج، تنفيذ البحوث التَّطبيقيَّة، والمشاركة في تنمية المجتمع. يمكن لجامعة أسيوط، بما تملكه من مستشفيات جامعيَّة متقدِّمة ومعامل مركزيَّة، أن تفتح أبوابها أمام طلَّاب الجامعات الخاصَّة للتَّدريب والاحتكاك المباشر بالواقع المهنيِّ. كما يمكن لتلك الجامعات أن توفِّر فرصًا للتَّجريب الأكاديميِّ وابتكار مسارات دراسيَّة جديدة.
إلى جانب هذين الطَّرفين، تبرز مؤسَّسات المجتمع المدنيِّ باعتبارها شريكًا رئيسيًّا لا يمكن تجاهله. فهي الأقدر على قراءة الاحتياجات المحلِّيَّة، والتَّعامل مع التَّحدِّيات المجتمعيَّة اليوميَّة، ولديها قدرة فعليَّة على تحويل الجهود التَّعليميَّة والبحثيَّة إلى نتائج ملموسة على الأرض. كما يمكن لهذه المؤسَّسات أن توفِّر فرصًا ميدانيَّةً لتدريب الطُّلَّاب، وتساهم في تقديم مقترحات واقعيَّة للبحوث العلميَّة، وربط مخرجات التَّعليم بقضايا مثل الأمِّيَّة، التَّغيُّر المناخيُّ، الصِّحَّة المجتمعيَّة، وتمكين المرأة.
الحديث هنا ليس عن تعاون بروتوكوليّ أو تنسيق محدود، بل عن بناء نموذج تكامليّ مستدام لشراكة منهجيَّة قائمة على ثلاثة أضلاع: جامعة حكوميَّة عريقة، جامعات خاصَّة مرنة، ومجتمع مدنيّ فاعل. والهدف ليس فقط رفع جودة التَّعليم، بل إعادة بناء العلاقة بين الجامعة والمجتمع، وتعزيز ثقة المواطن في التَّعليم العالي كمصدر لحلِّ المشكلات وليس فقط منح الشَّهادات.
يطلب تفعيل هذا النَّموذج إطارًا إداريًّا وتنظيميًّا مرنًا يتناسب مع طبيعته التَّشاركيَّة وطموحاته التَّطبيقيَّة. ويستلزم ذلك مراجعة اللَّوائح المنظِّمة للعلاقات بين الجامعات، وإتاحة إنشاء وحدات دائمة للتَّنسيق والتَّخطيط المشترك، مع تخصيص موارد ماليَّة داعمة من خلال آليَّات تمويل تعاونيّ. كما ينتظر من إدارات الجامعات أن تتبنَّى هذا التَّوجُّه كخيار استراتيجيّ، تبادر من خلاله إلى توقيع مذكِّرات تفاهم وتشكيل فرق عمل مشتركة تتابع التَّنفيذ وتقيم النَّتائج. وفي هذا الإطار، يبرز دور وزارة التَّعليم العالي في تهيئة البيئة التَّشريعيَّة، وتقديم الدَّعم المؤسَّسيِّ، وتشجيع النَّماذج النَّاجحة، وتوجيه السِّياسات العامَّة نحو تعزيز التَّعاون بين مؤسَّسات التَّعليم والمجتمع. كما تضطلع الهيئة القوميَّة لضمان جودة التَّعليم والاعتماد بمسؤوليَّة مهمَّة في إدماج هذا النَّموذج التَّكامليِّ ضمن معايير التَّقييم المؤسَّسيِّ، بما يعزِّز من ثقافة الجودة، ويربط بين الأداء الأكاديميِّ والفعَّاليَّة المجتمعيَّة.
لا تقتصر مكاسب التَّجربة المقترحة على المستوى الأكاديميِّ فحسب، بل تمتدُّ إلى مجالات أوسع تمسُّ جوهر دور الجامعة في المجتمع. فهي تسهم في تحسين مستوًى الخرِّيجين وتأهيلهم عمليًّا لمتطلَّبات سوق العمل، وتعزِّز من توجُّه البحث العلميِّ نحو مشكلات البيئة المحلِّيَّة وقضاياها الفعليَّة، بما يجعل المعرفة أكثر ارتباطًا بالواقع. كما تعيد رسم صورة الجامعة كمؤسَّسة منتجة ومؤثِّرة في محيطها، لا تكتفي بتقديم الشَّهادات، بل تقدُّم الحلول. وتساهم هذه التَّجربة في توسيع شبكة العلاقات بين الجامعات ومؤسَّسات الدَّولة والقطاع الخاصِّ، بما يفتح آفاقًا جديدةً للتَّعاون والتَّكامل. كذلك تفتح الباب أمام الاستفادة من إمكانيَّات المجتمع المدنيِّ في دعم برامج التَّعليم والتَّدريب، وتوفير بيئات ميدانيَّة حقيقيَّة للتَّعلُّم والتَّفاعل، بما يضمن اتِّساق التَّعليم مع التَّنمية واحتياجات المواطن.
جامعة أسيوط، بتاريخها وموقعها وقدراتها، مؤهَّلةً لتقود هذا التَّحوُّل نحو نموذج تكامليّ حقيقيّ. ما نحتاجه فقط هو الانطلاق. أنَّ نتخلَّى عن الحسابات الضَّيِّقة، وأن نعيد تعريف وظيفة الجامعة، لا كمصدر للمعرفة فقط، بل كمحرِّك للتَّنمية، وفاعل في الشَّأن العامِّ، وشريك في إدارة التَّغيير.
لا يندرج هذا المقترح ضمن إطار الأفكار النَّظريَّة، بل يمثِّل تصوُّرًا وطنيًّا قابلاً للتَّنفيذ وشديد الصِّلة بأولويَّات المرحلة. ويتطلَّب الإرادة، ويحتاج إلى شجاعة القرار. مصر لا ينقصها الطَّاقات، بل تحتاج إلى توجيهها. ولا ينقصها المؤسَّسات، بل ينقصها الرَّبط بينها. وإذا كانت كلُّ مؤسَّسة تعمل في جزر منعزلة، فإنَّ النَّاتج يكون أقلَّ من الإمكانيَّات بكثير. أمَّا إذا تكاملت الأدوار وتضافرت الجهود، فإنَّ النَّتيجة تتجاوز المأمول.
يشكِّل هذا المقترح إطارًا عمليًّا لبناء عقل تعليميّ وطنيّ جديد، ينطلق من التَّعاون باعتباره ضرورة لا ترفًا، ويرى في الشَّراكة وسيلةً فعليَّةً لا مجرَّد شعار، ويعتمد على التَّكامل بين الجامعات والمجتمع باعتباره مسارًا نحو نهضة حقيقيَّة. فالتَّعليم العالي في مصر لم يعد بحاجة فقط إلى التَّوسُّع الكمِّيِّ، بل إلى تفكير مشترك، وعمل تشاركيّ، ورؤية مؤسَّسيَّة واضحة تربط بين المعرفة والتَّنمية.
هذا المقترح لا يندرج ضمن إطار الأكاديميا النَّظريَّة، بل يمثِّل مشروعًا وطنيًّا متكاملاً يبدأ من جامعة أسيوط ولا يتوقَّف عند حدودها. إنَّه مشروع ينطلق من قلب الصَّعيد، ليقدِّم نموذجًا عمليًّا قابلاً للتَّطبيق في مختلف أنحاء الجمهوريَّة. فالتَّعليم هو المدخل الحقيقيُّ، أمَّا التَّنمية الشَّاملة فهي الغاية الأوسع. وحين تفتح الجامعة أبوابها أمام الشَّراكة والتَّكامل، فإنَّها تفتح في الواقع أبوابًا أوسع نحو مستقبل أكثر وعيًا وعدالة وفاعليَّة. إنَّ بناء تعليم عال متكامل ومرتبط بمجتمعه لم يعد خيارًا، بل ضرورةً وطنيَّةً تفرضها المرحلة وتنتظر من الجميع الالتزام والمسؤوليَّة. ومن هنا، فإنَّ دعم هذا التَّوجُّه يعدُّ عنصرًا حاسمًا في تحويل هذا النَّموذج من رؤية نظريَّة إلى مسار تطبيقيّ مستدام، قابل للتَّعميم، يرسِّخ حضور التَّعليم في قلب عمليَّة التَّنمية الوطنيَّة.