
اِنتشَر فِي اَلآوِنة الأخيرة على مِنصَّات التَّواصل الاجْتماعيِّ فِي مِصْر مَنشُور لَافِت يقول: “مَا هُو التَّبْذير؟ لتبذير هو أن تشتري كوب قهوة يوميا ب 15 جنيه . لإنعاش مخ عاجز عن إنتاج فكرة بربع جنيه”. لِلْوهْلة اَلأُولى يَبدُو هذَا المنْشور بسيطًا وساخرا، لَكنَّه فِي جَوهَرِه يَعكِس خِطابًا اِجْتماعيًّا وثقافيًّا جديرًا بِالتَّحْليل النَّقْديِّ. مِن مَنظُور التَّحْليل اَلنقْدِي لِلْخطاب، نَحْن أَمَام نصٍّ قصير لَكنَّه مَحمَل بِأبْعَاد أيْديولوجيَّة وسلوكيَّة تَعكِس مَواقِف المجْتمع تُجَاه الاسْتهْلاك والْإنْتاج، وَتكشِف عن صِرَاع ضِمْنِي بَيْن أَنمَاط العيْش اليوْميَّة وبيْن أوْلويَّات التَّنْمية الإنْسانيَّة المسْتدامة. اَلنَّص يضع المسْتهْلك فِي مَوضِع الاتِّهام الأخْلاقيِّ، فَهُو لَا يَلُوم السِّياسات الاقْتصاديَّة أو الظُّروف الاجْتماعيَّة بِقَدر مَا يَحمِل الفرْد مسْؤوليَّة تَبدِيد مَوارِده على مَا يَعتبِره كماليَّات، مُقَابِل غِيَاب الاسْتثْمار الحقيقيِّ فِي الفكْر والْمعْرفة.
هذَا المنْشور، على بساطته، يَطرَح سُؤَالا عميقا: كَيْف يُعَاد تَعرِيف التَّبْذير فِي ظِلِّ التَّحوُّلات الاقْتصاديَّة والاجْتماعيَّة؟ فالتَّبْذير لَم يَعُد مُجرَّد إِنفَاق زَائِد على مَظاهِر التَّرَف، بل أَصبَح مُرْتبِطًا بِضَعف الوعْي السُّلوكيِّ اَلذِي يَحُول الموارد المادِّيَّة إِلى اِسْتهْلاك لَحظِي بدلا مِن تحْويلهَا إِلى اِسْتثْمار مَعرفِي وثقافيٍّ يُسَاهِم فِي التَّنْمية الإنْسانيَّة. مِن هُنَا، يُصْبِح كُوب القهْوة اَليوْمِي رمْزًا لِثقافة اِسْتهْلاكيَّة قَصِيرَة الأمَد، بيْنمَا الفكْرة الرَّخيصة الثَّمن تَرمُز إِلى المعْرفة اَلتِي يُمْكِن أن تُحْدِث تغْييرًا حَقيقِيا فِي حَيَاة الفرْد والْمجْتمع.
إِذَا ربطنَا هذَا المنْشور بِمفْهوم التَّنْمية الإنْسانيَّة المسْتدامة، فَإِننَا نَلمِس بُعْدًا مُهمًّا يَتَعلَّق بِالتَّرْتيب العقْلانيِّ لِلْأوْلويَّات. التَّنْمية المسْتدامة لَا تَقُوم على وَفرَة الموارد بِقَدر مَا تَقُوم على حُسْن إِدارتهَا واسْتثْمارهَا لِتحْقِيق مَصْلَحة الأجْيال الحاليَّة والْقادمة. وبالتَّالي، عِنْدمَا يَتَكرَّر ظُهُور هذَا المنْشور على نِطَاق وَاسِع فِي الفضَاء الرَّقْميِّ، فَإنَّه يَعكِس وعْيًا وطنيًّا يَتَشكَّل حَوْل مسْؤوليَّة الفرْد فِي نمط اِسْتهْلاكه، وحوْل أَهَميَّة اِسْتثْمار المبالغ القليلة فِي التَّعْليم والثَّقافة وَالفِكر بدلا مِن اِسْتهْلاكهَا فِي مَظاهِر مُؤقتَة. هذَا الرَّبْط بَيْن السُّلوك اَلفرْدِي والتَّنْمية الشَّاملة يُؤكِّد أنَّ التَّنْمية الإنْسانيَّة لَيسَت مُجرَّد مَشارِيع كُبرَى أو سِياسَات حُكوميَّة، بل تَبدَأ مِن قرارَات يَومِية بَسِيطَة يتَّخذهَا الأفْراد.
لَكنْ، إِذَا دقَّقْنَا النَّظر أَكثَر فِي المنْشور مِن زَاوِية نقْديَّة، سَنجِد أَنَّه يَنطَوِي أيْضًا على نَزعَة تبْسيطيَّة وَرُبمَا إِقْصائيَّة. فليْس كُلٌّ مِن يَشتَرِي القهْوة يوْميًّا عاجزًا عن إِنتَاج فِكْرة، وليْس الإنْفاق على مُتعَة صَغِيرَة دائمًا دليلا على غِيَاب الوعْي أو اَلفكْرِ. هُنَاك أَبعَاد نَفسِية واجْتماعيَّة تَتَعلَّق بِالرَّاحة الشَّخْصيَّة وإدارة الضُّغوط اليوْميَّة، وَهِي أيْضًا جُزْء مِن التَّنْمية الإنْسانيَّة اَلتِي تَعتَرِف بِحاجَات الإنْسان المادِّيَّة والنَّفْسيَّة معا. الخطَاب إِذْن يَحمِل بُعْدًا وتوْجيهيًّا أخْلاقيًّا قد يُسْهِم فِي تَحفِيز الوعْي المجْتمعيِّ ضِدَّ الممارسات الاسْتهْلاكيَّة غَيْر المنْتجة، لَكنَّه قد يَغفُل التَّعْقيد الحقيقيُّ لِلْعلاقة بَيْن الفرْد والاسْتهْلاك والتَّنْمية.
اللَّافتَ فِي هذَا السِّيَاق هُو سُرعَة اِنتِشار مِثْل هَذِه المنْشورات عَبْر مِنصَّات التَّواصل الاجْتماعيِّ، بِمَا يَعكِس اِسْتعْداد المجْتمع لِتلقِّي الرَّسائل اَلتِي تضع الاسْتهْلاك فِي مُوَاجهَة الفكْر والْإنْتاج. إِنَّ هذَا الانْتشار الواسع فِي الفضَاء اَلتقْنِي يَجعَل مِن المنْشور أَدَاة لِإعادة إِنتَاج قِيم جَدِيدَة وَتأكِيد قِيم قديمَة، وَيكشِف فِي الوقْتِ نَفسِه عن تَعطُّش المجْتمع اَلمصْرِي لِخطابات نَقدِية تُحَاكِي هُمُومَه الاقْتصاديَّة والثَّقافيَّة اليوْميَّة. وَهنَا يُظْهِر دَوْر التَّحْليل اَلنقْدِي لِلْخطَاب فِي الكشْف عن أَنمَاط التَّأْثير والْمعْنى المتخفِّية، فالرِّسالة لَيسَت مُجرَّد دَعوَة لِلتَّقشُّف، بل هِي إِعادة تَرتِيب لِلْقيم حَيْث يُصْبِح الفكْر فِي مَرْتَبة أَسمَى مِن الاسْتهْلاك.
إِنَّ الرَّبْط بَيْن الاسْتهْلاك والتَّنْمية الإنْسانيَّة المسْتدامة يَفتَح النِّقَاش على مُسْتوًى أَوسَع. فالتَّنْمية لَيسَت عَمَليَّة اِقْتصاديَّة فقطْ، بل مَشرُوع ثَقافِي وَسلُوكي يُحدِّد كَيفِية إِعادة تَوجِيه الموارد المتاحة لِخدْمة الإنْسان. وَإذَا أَنفَقت الموارد على مَا يُعزِّز الفكْر والتَّعْليم والْإبْداع، فَإِن العائد يَتَجاوَز الفرْد لِيَصل إِلى المجْتمع بِأسْرِه. أَمَّا إِذَا تَحولَت الموارد إِلى اِسْتهْلاك لَحْظيٍّ، فَإِن النَّتيجة تَكُون إِضعَاف اَلقُدرة على بِنَاء مُجتَمَع مُسْتدام. لِذَلك فَإِن مَنشُورا بسيطًا مِثْل: «قهْوة بِخمْسة عشر جُنَيْها وَفِكرَة بِربْع جُنَيْه» يكْشف، رَغْم محْدوديَّته، عن وَعْي مُجتمعِي مُتَنام بِأهمِّيَّة الانْتقال مِن ثَقافَة الاسْتهْلاك إِلى ثَقافَة الاسْتثْمار فِي الإنْسان. بِهَذا المعْنى، يُصْبِح تَحلِيل مِثْل هَذِه النُّصوص لَيْس ترفًا أكاديميًّا، بل ضَرُورَة لِفَهم كَيْف يُعَاد تَشكِيل وَعْي الأفْراد بِأوْلويَّاتهمْ. التَّنْمية الإنْسانيَّة المسْتدامة تَبدَأ مِن إِعادة التَّفْكير فِي تَفاصِيل الحيَاة اليوْميَّة، وَمِن إِدرَاك أنَّ الفكْرة اَلتِي قد تَبدُو “بِربْع جُنَيه” قد تَكُون أَكثَر قِيمة على المدى اَلطوِيل مِن أيِّ مُتعَة اِسْتهْلاكيَّة عابرَة. المنْشور إِذْن لَيْس مُجرَّد نَقْد