الأستاذ الدكتور/ ياسر أحمد جمعة

في ظلِّ سعي الدَّولة المصريَّة لإعادة صياغة منظومة التَّعليم وفق متطلَّبات التَّنمية الاقتصاديَّة وسوق العمل، أطلقت وزارة التَّعليم العالي مشروع الجامعات التِّكنولوجيَّة كمسار مستقلّ في التَّعليم الجامعيِّ يوازي الجامعات التَّقليديَّة، لكنَّه يختلف عنها في البنية، والفلسفة، والهدف. هذا النَّوع من التَّعليم يخرج طالبًا قادرًا على العمل فور تخرُّجه، لأنَّه يكون قد تلقَّى تدريبًا فعليًّا داخل معامل ومصانع ومؤسَّسات تطبيقيَّة حقيقيَّة طوال فترة دراسته.

تمَّ تأسيس الجامعات التِّكنولوجيَّة في مصر بموجب القانون رقم 72 لسنة 2019، كمسار جديد ومتكامل يهدف إلى تقديم تعليم جامعيّ عالي تطبيقيّ، يقوم على التَّدريب العمليِّ، ونقل التِّكنولوجيا، وربط التَّعليم بالإنتاج. وقد بدأت المرحلة الأولى بإنشاء ثلاث جامعات تكنولوجيَّة في عام 2019 في القاهرة الجديدة، وقويسنا بمحافظة المنوفيَّة، وبني سويف. ثمَّ توسَّعت الدَّولة في إنشاء المرحلة الثَّانية لتشمل جامعات تكنولوجيَّةً جديدةً في أسيوط الجديدة، والسَّادس من أكتوبر، وبرج العرب، وشرق بورسعيد، وطيبة الجديدة بالأقصر، وسمنود. الهدف ليس فقط التَّوسُّع الجغرافيَّ، بل تقديم تخصُّصات تطبيقيَّة مباشرة في مجالات مثل تكنولوجيا الأطراف الصِّناعيَّة، وتكنولوجيا المعلومات والذَّكاء الاصطناعيِّ، والطَّاقة الجديدة والمتجدِّدة، والميكاترونكس، والصِّناعات الغذائيَّة، تكنولوجيا النَّقل، والصِّيانة الصِّناعيَّة، والأجهزة الطِّبِّيَّة.

في صعيد مصر، وتحديدًا بمحافظة أسيوط، تمثِّل جامعة أسيوط الجديدة التِّكنولوجيَّة نموذجًا فعليًّا للتَّعليم التَّطبيقيِّ المرتبط بالصِّناعة والمجتمع. أنشئت الجامعة لخدمة محافظات الوجه القبليِّ، وتقديم تعليم تكنولوجيّ عالي المستوى، يجمع بين المعرفة الأكاديميَّة والتَّدريب العمليِّ. الهدف الأساسيُّ للجامعة هو إعداد طالب يمتلك القدرة على الرَّبط بين النَّظريِّ والعمليِّ؛ طالب لا يكتفي بالدِّراسة داخل القاعات، بل يخرج إلى المصانع، ويتدرَّب في الورش، ويتعامل مع حالات واقعيَّة، ويشارك في تطوير منتجات أو حلول عمليَّة تخدم الإنسان وتستجيب لحاجات المجتمع.

منذ بدء الدِّراسة بها، أثبتت الجامعة، برئاسة الأستاذ الدُّكتور جمال تاج عبد الجابر، قدرتها على تحقيق هذا التَّوازن، من خلال برامج دراسيَّة تركِّز على التَّطبيق، وتخصُّصات تخدم احتياجات السُّوق. برز هذا التَّوجُّه بوضوح في الكلِّيَّات التَّطبيقيَّة، وعلى رأسها كلِّيَّة العلوم الصِّحِّيَّة، الَّتي تبنَّت مشروعات إنتاجيَّةً فعليَّةً، مثل تصميم وتصنيع الأطراف الصِّناعيَّة والأجهزة التَّعويضيَّة، اعتمادًا على تقنيَّات الدَّوائر الإلكترونيَّة الدَّقيقة والبرمجة.

ضمن النَّماذج الفعليَّة للتَّكامل بين الجامعة والمجتمع المدنيِّ، تبرز مؤسَّسة الدُّكتور أحمد جمعة للتَّنمية الإنسانيَّة المستدامة بدور محوريّ في دعم مسار التَّعليم التَّطبيقيِّ وربطه بواقع الإنتاج والخدمة المجتمعيَّة. فبفضل ما تمتلكه المؤسَّسة من خبرات ميدانيَّة وبنية تحتيَّة متخصِّصة، خاصَّةً في مجال التَّأهيل الصِّناعيِّ، تستطيع أن توفِّر للطُّلَّاب بيئةً حقيقيَّةً للتَّدريب العمليِّ، داخل مصنع الأطراف الصِّناعيَّة ومركز التَّأهيل الشَّامل للبنين التَّابع لها بمحافظة أسيوط.

استقبلت المؤسَّسة طلَّاب الجامعة برفقة الأستاذة الدُّكتورة ولاء محمود الشَّريف، عميدة كلِّيَّة العلوم الصِّحِّيَّة التَّطبيقيَّة، والدُّكتور محمَّد أحمد عبد الوهَّاب، المشرف على مشروعات التَّخرُّج، ونظَّمت لهم جولة ميدانيَّة موسَّعة للاطِّلاع على الإمكانيَّات التَّدريبيَّة داخل ورش الأخشاب، والحديد، والبلاستيك، والجلود والنَّيكل، فضلاً عن خطوط الإنتاج في مصنع الأجهزة التَّعويضيَّة. وقدَّمت المؤسَّسة شرحًا تفصيليًّا لمراحل التَّصنيع المختلفة، ما أتاح للطُّلَّاب فهمًا عمليًّا دقيقًا لمجريات العمل الإنتاجيِّ المرتبط بتخصُّصاتهم.

وخلال هذه الزِّيارة، أعربت المؤسَّسة عن استعدادها الكامل لتقديم الدَّعم الفنِّيِّ والتَّدريبيِّ للطُّلَّاب، ومساندتهم في تحويل أفكارهم ومشروعاتهم إلى نماذج عمليَّة قابلة للتَّنفيذ، بما يعزِّز من فرص تأهيلهم لسوق العمل. كما تمَّ التَّوافق على إعداد بروتوكول تعاون مشترك بين الجامعة والمؤسَّسة، لتنظيم برامج التَّدريب، وتبادل الخبرات، وتحقيق أقصى استفادة من إمكانيَّات المؤسَّسة في مجال التَّأهيل الصِّناعيِّ.

تأتي هذه الخطوة تأكيدًا للرُّؤية الثَّاقبة الَّتي وجَّه بها فخامة الرَّئيس عبد الفتَّاح السِّيسي، بضرورة دمج التَّعليم بسوق العمل، وتكريس مفهوم التَّعليم المنتج، وتعزيز الشَّراكة بين الجامعات ومؤسَّسات المجتمع المدنيِّ.

إنَّ انفتاح الجامعة على مؤسَّسة بهذا الحجم والتَّخصُّص، لا يمثِّل فقط دعمًا مباشرًا للعمليَّة التَّعليميَّة، بل هو أيضًا نموذج يحتذى به في تفعيل المسؤوليَّة المجتمعيَّة، وتأسيس شراكات حقيقيَّة ترتكز على الإنتاج والمعرفة والهدف الوطنيِّ المشترك.

زيارة طلَّاب الجامعة التِّكنولوجيَّة لمراحل تصنيع الأطراف، من ورش الأخشاب والحديد والبلاستيك والجلود والنَّيكل، فتحت أمامهم أفقًا جديدًا لفهم الصِّناعة عن قرب، وربط ما يتعلَّمونه في الجامعة بواقع المهارة والإنتاج. المؤسَّسة لم تقدِّم فقط مباني وتجهيزات، بل قدَّمت نموذجًا لما يجب أن تكون عليه مؤسَّسات المجتمع المدنيِّ: حاضنةً للمبادرات الطُّلَّابيَّة، داعمةً للتَّعليم المنتج، ومشاركة في بناء كوادر شابَّة مدرَّبة.

ما تحقَّق في هذه التَّجربة الرَّائدة هو حصيلة عمل مشترك، شارك فيه الجميع بإرادة واضحة وإيمان حقيقيّ بأهمِّيَّة ربط التَّعليم بالتَّنمية.

كلُّ الشُّكر والتَّقدير لفخامة الرَّئيس عبد الفتَّاح السِّيسي، الَّذي أطلق مشروع الجامعات التِّكنولوجيَّة، ووضع التَّعليم التَّطبيقيِّ في قلب رؤية الدَّولة 2030. والشُّكر موصول للأستاذ الدُّكتور جمال تاج عبد الجابر، رئيس جامعة أسيوط الجديدة التِّكنولوجيَّة، على قيادته المتَّزنة، وحرصه على جعل الجامعة كيانًا منتجًا ومجتمعيًّا.

كما أوجِّه التَّقدير إلى الأستاذة الدُّكتورة ولاء محمود الشَّريف، عميدة كلِّيَّة العلوم الصِّحِّيَّة التَّطبيقيَّة، والدُّكتور محمَّد أحمد عبد الوهَّاب، المشرف على مشروعات التَّخرُّج، لتفانيهما في دعم الطُّلَّاب، وجهودهما في ربط التَّعليم بالمجال العمليِّ، وتفعيل الشَّراكات المجتمعيَّة الَّتي تسهم في تعزيز أثر التَّعليم التَّطبيقيِّ وتحقيق أهدافه التَّنمويَّة.

ما يحدث في جامعة أسيوط الجديدة التِّكنولوجيَّة، وفي مؤسَّسة الدُّكتور أحمد جمعة للتَّنمية الإنسانيَّة بصفتها إحدى مؤسَّسات المجتمع المدنيِّ الدَّاعمة، ليس مشروعًا تجريبيًّا، بل هو جزء من بناء دولة حديثة، تعيد تعريف التَّعليم، وتستثمر في المواطن، وتربط الجامعة بحياة المواطنين.

هذا النَّموذج يجب أن يستمرَّ فيه، ويدعم، ويكرِّس في جميع محافظات مصر. فالتَّعليم التِّكنولوجيُّ لم يعد ترفًا، بل أصبح ضرورةً وطنيَّةً.

Scroll to Top