فَخامَة اَلرئِيس والْمتْحف اَلمصْرِي الكبير: حَرْب سِيميوطيقيَّة لِإحْيَاء مجْد رمْسيس الثَّاني وصياغة السَّلَام
مُنْذ القدَم، أَدرَك المصْريُّون أنَّ اَلقُوة الحقيقيَّة لَا تَنبُع مِن السِّلَاح وحْده، بل مِن اَلقُدرة على التَّحَكُّم فِي المعاني والرُّموز اَلتِي تُشكِّل وَعْي الشُّعوب وتؤسِّس لِلسُّلْطة الثَّقافيَّة والسِّياسيَّة. فِي عام 1274 قَبْل الميلاد، دَارَت مَعْرَكة قَادِش التَّاريخيَّة على ضِفَاف نَهْر العاصي شَمَال سُورْيَا، حَيْث خاض رمْسيس الثَّاني مُواجهته الشَّهيرة ضِدَّ الحيْثيِّين بِقيادة مُواتْللي الثَّاني. لَم تَكُن هَذِه المعْركة مُجرَّد صَدَّام عَسكرِي، بل أَصبَحت نموذَجًا أَولِيا “للحرْب السِّيميوطيقيَّة”، أيْ الحرْب اَلتِي لَا تَقتَصِر على اِكتِساب الأرْض فحسْب، بل تَستخْدِم الرُّموز والْفنُّ والْكتابة لِصناعة هُويَّة وَطَنيَّة والْوَعْي الوطنيِّ.
والْيوْم، يُعيد فَخامَة اَلرئِيس عَبْد الفتَّاح السِّيسي تَوظِيف هَذِه الحكْمة الحضاريَّة فِي العصْر اَلحدِيث مِن خِلَال اِفتِتاح المتْحف اَلمصْرِي الكبير، أَكبَر صَرَّح ثَقافِي مُكرَّس لِحضارة واحدَة، يَضُم أَكثَر مِن 100 أَلْف قِطْعَة أَثرِية. المتْحف لَيْس مُجرَّد مَكَان لِحفْظ التَّاريخ، بل مِنَصة لِلْحرْب السِّيميوطيقيَّة الحديثة، حَيْث تُوظِّف الرُّموز والْمعاني التَّاريخيَّة لِإعادة صِياغة اَلهوِية الوطنيَّة وَتعزِيز النُّفوذ اَلمصْرِي محلِّيًّا ودوْليًّا، تمامًا كمَا فعل رمْسيس الثَّاني قِبل آلاف السِّنين.
تَحلِيل الخطَاب يَكشِف أنَّ فَخامَة اَلرئِيس يُدير حرْبًا سِيميوطيقيَّة بِامْتياز. فَفِي عَصْر تَغيرَت فِيه أَدوَات اَلقُوة، لَم تَعُد السَّيْطرة على الأرْض وحْدهَا تَكفِي، بل أَصبَحت السَّيْطرة على المعاني، الرُّموز، والسَّرْديَّات هِي المحَكُّ. اِسْتخْدم فَخَامتَه التُّرَاث اَلمصْرِي لِصياغة أَدوَات دِبْلوماسيَّة ثقافيَّة، مُسْتلْهمًا مِن رمْسيس اَلذِي اِمتلَك فنُّ تَحوِيل الانْتصار إِلى حِكايَة. كُلُّ قِطْعَة أَثرِية فِي المتْحف تُصْبِح عَلامَة تَحمُّل رِسالة سِياسيَّة: حَضارَة عظيمَة، هُويَّة وَطَنيَّة مُتماسكة، وَقوَّة رَمزِية على السَّاحة الدَّوْليَّة.
خِلَال اِفتِتاح المتْحف، قال فَخامَة الرَّئيس: “مِن أَرْض مِصْر المباركة، مَهَّد الحضارة الإنْسانيَّة، أُرحِّب بِضيوفنَا الكرَام … هذَا المشْروع يَجمَع عَبقرَة المصْريِّين القدماء وإبْدَاع المصْريِّين المعاصرين … وسيكون مَصدَر فَخْر لِكلِّ من يُؤْمِن بِوحْدة الإنْسانيَّة وَقيَم السَّلَام والْمحبَّة والتَّعاون بَيْن اَلأُمم”.
وَأَضافَ: “نَحْن هُنَا حَيْث خطتْ الحضارة أَوَّل حُروفِهَا … حَيْث شَهِد العالم وِلادة اَلفَن وَالفِكر والْكتابة والْإيمان”
واخْتَتم حديثه قائلاً: “أُرحِّب بِكم فِي بيْتكم الثَّاني، مِصْر … أَرْض الحضارة والتَّاريخ، أَرْض السَّلَام والْمحبَّة … لِيحْيى مِصْر، لِيحْيى الإنْسان”.
تَحلِيل خِطَاب فَخامَة اَلرئِيس يُبْرِز أنَّ المتْحف أَصبَح أَدَاة اِسْتراتيجيَّة لِلْحرْب الرَّمْزيَّة، حَيْث اَلقُوة لَا تُقَاس بِالْجَيْش أو الاقْتصاد فقطْ، بل بِالسَّيْطرة على الرُّموز والْمعاني اَلتِي تَبنِي وَعْي الشُّعوب وَتفرِض النُّفوذ الثَّقافيَّ والسِّياسيَّ. الهيْكل المعْماريُّ لِلْمتْحف، وَعرُوض المقْبرة الكاملة لِتوت عَنْخ آمونْ، وتماثيل رمْسيس الثَّاني لَيسَت مُجرَّد معْروضات تاريخيَّة، بل نصٌّ مُتَعدد الوسائط يَربُط الماضي بِالْحاضر والْمسْتقْبل، وَيحُول كُلُّ رَمْز إِلى أَدَاة سِياسِيَّة وثقافيَّة فاعلَة.
إِضافة إِلى ذَلكَ، يَعكِس المتْحف قُدرَة مِصْر على الاسْتفادة مِن تُرَاثهَا لِإعادة صِياغة اَلهوِية الوطنيَّة وإيصَال رِسالة قَويَّة لِلْعالم: أنَّ مِصْر لَيسَت مُجرَّد ماضٍ عريق، بل قُوَّة فَاعِلة فِي الحاضر، وَصانِعة لِلسَّلَام والتَّنْمية فِي المسْتقْبل. الرُّموز، مِن تَماثِيل رمْسيس الثَّاني وَعرَض كُنُوز تُوتْ عَنْخ آمون إِلى الهنْدسة المعْماريَّة الحديثة، تُظْهِر مِصْر بِوصْفِهَا سَاحَة حَرْب سِيميوطيقيَّة حَقيقِية تُدَار فِيهَا الرُّموز والْمعاني كمَا تُدَار الجيوش.
بِهَذه الطَّريقة أَصبَح المتْحف اَلمصْرِي اَلكبِير اِمْتدادًا لِلْمعْركة اَلكُبرى اَلتِي خاضهَا رمْسيس الثَّاني فِي قادشْ، واسْتمْرارًا لِإرادة مِصْر فِي العصْر الحديث، حَيْث تَتَحوَّل الرُّموز والْمعاني إِلى أَدوَات قُوَّة حَضارِية وسياسيَّة تُلْهِم الأجْيال وتؤسِّس لِلسَّلَام والتَّنْمية المسْتدامة، مُؤَكدا أنَّ مِصْر لَيسَت مُجرَّد مَاضِي مُشْرِق، بل حَاضِر حَيوِي ومسْتقْبل يُبنَى بِالرُّموز والْمعاني والْحضارة.
حِفْظ اَللَّه مِصْر ورئيسهَا اَلجُسور المقْدام، حَارِس السِّيادة ودرْع الكرامة، وَشَعبهَا العريق. وأبْقى مِصْر حِصْنًا لِلْكرامة ‏والسِّيادة، لِتَظل رايتَهَا عاليَةً، وَشَعبهَا آمنًا مُطْمئنًّا، يَنعَم بِالْأَمْن والسَّلام والاسْتقْرار.‏

Scroll to Top