
حِين تَتَكلَّم الدُّول العظْمى، تُقَاس مكانتهَا لَا بِمَا تَملِك مِن مَوارِد أو سِلاح، بل بِمَا تَمتَلِك مِن لُغَة. لُغَة تَحَاورَ، تُقْنِع، وتبنِّي الجسور. وَفِي بُروكْسل، كان الصَّوْتُ اَلمصْرِي حاضرا. لَا بِصَخب السِّياسة، بل بِبلاغة القيادة اَلتِي تَعرِف متى تتحدَّث، وَمتَى تَصمتُ.
فِي الثَّاني والْعشْرين مِن أُكتُوبَر 2025، حَملَت زِيارة اَلرئِيس عَبْد الفتَّاح السِّيسي إِلى العاصمة البلْجيكيَّة بُروكْسل دلالَات تَتَجاوَز الإطَار البروتوكوليَّ، إِذ جَاءَت المشاركة فِي اَلقِمة اَلأُولى بَيْن مِصْر والاتِّحاد الأوروبِّيِّ لِتؤكِّد مَكانَة مِصْر كَفاعِل أَساسِي فِي مُعادلات الأمْن والتَّنْمية فِي الشَّرْق اَلْأَوسط والْمتوسِّط، وتجسِّد حُضورًا لُغَويا ودبْلوماسيًّا مُتَّزنًا يَربُط بَيْن الفكْر السِّياسيِّ والْقدْرة على التَّواصل الحضاريِّ. لَم تَكُن الزِّيارة حدثًا بُروتوكوليًّا عابرا، بل نصًّا لُغَويا مُتكاملا اِجْتمَعتْ فِيه السِّياسة والدِّبْلوماسيَّة والْوَعْي اللُّغَويُّ فِي آن واحد. وَمِن خِلَال عَدسَة عِلْم اَللغَة وَتحلِيل الخطَاب النَّقْديِّ، يُمْكِن قِراءة هَذِه الزِّيارة بِاعْتبارهَا مُمَارسَة بَلاغِية مُتَقدمَة صَاغَت عَبْر اَللغَة مَعانِي اَلقُوة النَّاعمة والْمسْؤوليَّة الدَّوْليَّة. بُروكْسل، عَاصِمة الاتِّحاد الأوروبِّيِّ، لَم تَستقْبِل مِصْر كضيْف، بل كصوْت يَمتَلِك رُؤيَتَه الواضحة فِي قضايَا الأمْن والتَّنْمية والْهجْرة والطَّاقة، وَهُو مَا تَجلَّى فِي نَبرَة الخطاب، وَفِي اِختِيار المفْردات، وَفِي الأدَاء غَيْر اَللفْظِي اَلذِي حمل مَعانِي لَا تُقِل عُمْقًا عن الكلمات.
تَحلِيل الخطَاب اَلذِي قَدمَه فَخامَة اَلرئِيس السِّيسي خِلَال لِقاءاته فِي اَلقِمة يَكشِف عن بِنْيَة لُغَويَّة تَستَحِق التَّأمُّل. الكلمات المفْتاحيَّة اَلتِي تَكررَت مِثْل “الشَّراكة”، “الاسْتقْرار”، “التَّنْمية”، و “المسْؤوليَّة المشْتركة” تَنتَمِي إِلى حَقْل دَلالِي إِيجابيٍّ يُوحي بِالتَّعاون لَا بِالتَّنافس. وَهذَا الاخْتيار اللُّغَويُّ لَيْس مُصادفة، بل يَعكِس مَا وَصفَه عَالَم اَللغَة البريطانيِّ نُورْمَان فايْركْلاف فِي دِراساته حَوْل تَحلِيل الخطَاب اَلنقْدِي بِأنَّ اَللغَة وَسِيلَة لِإعادة إِنتَاج اَلقُوة وَتمثِيل الأيْديولوجْيا. فالْقائد لَا يَستخْدِم اَللغَة فقط لِوَصف الواقع، بل لِيعيد تشْكيله ضِمْن مَنظُومة قِيم يُريد ترْسيخها. فِي هذَا السِّياق، عَبْر خِطَاب فَخامَة اَلرئِيس فِي بُروكْسل بِوضوح عن أنَّ مِصْر تَتَحدَّث مِن مَوقِع المبادرة والْمسْؤوليَّة، وَمِن مَوقِع الشَّراكة المتكافئة اَلتِي تَصُوغ المواقف ولَا تَكتَفِي بِالتَّفاعل مَعَها.
وَمِن النَّاحية التَّرْكيبيَّة، اِسْتخْدم فَخامَة اَلرئِيس ضمير الجمْع “نَحْن” بدلا مِن “أنَا” فِي أَكثَر مِن موْضع، مَا يَعكِس فَلسفَة القيادة اَلتِي تُدْمِج الذَّات فِي الجماعة وتذيب الفرْديَّة فِي المصْلحة الوطنيَّة. هذَا التَّحَوُّل مِن الأنَا إِلى النَّحْن يُعيد تَعرِيف مَفهُوم القيادة بِوصْفِهَا فِعْلا جماعيًّا، ويؤكِّد مَا أَشَار إِلَيه عُلَماء اَللغَة مِثْل مَايكِل هاليدايْ بِأنَّ اَللغَة تُمثِّل أفْعالا اِجْتماعيَّة تُعيد تَشكِيل العلاقات بَيْن الأفْراد والْمؤسَّسات. فحين يَقُول القائد “نَحْن نَسعَى” بدلا مِن “أَسعَى”، فَهُو يَربُط جُهدُه بِالْوطن، لَا بِالْمنْصب، وَيحُول الخطَاب مِن شَخصِي إِلى جمْعيٍّ، مِن فَردِي إِلى مُؤسَّسِيٍّ.
الجانب التَّداوليِّ فِي خِطَاب فَخامَة اَلرئِيس كان لَافتًا بِوضوح. فعنْد تَناوُل قضايَا حَسَّاسة كالْهجْرة غَيَّر الشَّرْعيَّة أو أَمْن المتوسِّط، تَميَّز الخطَاب بِلغة دِبْلوماسيَّة رَصِينَة تَجمَع بَيْن الاتِّزان والْحزْم. هذَا التَّوازن اَلدقِيق بَيْن الرَّصانة والْحَزْم يُجسِّد وعْيًا لُغَويا راقيًا واسْتراتيجيَّة تَواصُل مدْروسة، تَعكِس مَا يَعرِف فِي عِلْم اَللغَة التَّداوليِّ بِنظرِيَّة “التَّهْذيب اللُّغَويِّ” اَلتِي وضعهَا بِراوْن وِليفنْسونْ. فالْمتكلِّم النَّاجح، فِي نظرهما، هُو مِن يُحَافِظ على وَجْه الآخر دُون أن يَتَخلَّى عن مواقفه. وَمِن ثمَّ يُمْكِن القوْل إِنَّ خِطَاب فَخامَة اَلرئِيس فِي بُروكْسل شَكَّل نموذَجًا لِلتَّوازن اللُّغَويِّ اَلذِي يَصُون الكرامة الوطنيَّة المصْريَّة ويعزِّز اِحتِرام الشُّركاء.
أَمَّا لُغَة الجسد والْأداء غَيْر اَللفْظِي لِفخامة الرَّئيس، فقد شكْلا رَكِيزَة أَساسِية فِي إِيصَال المعْنى والرِّسالة. كان أَدَاء فخامَته خِلَال المؤْتمر الصَّحَفيِّ مَحسُوبا بِعناية فائقَة: نَبرَة الصَّوْتِ ثابتَةً، والْيدان محْدودتان فِي الإشارة، والنَّظْرة مُبَاشرَة ومسْتقرَّة، مَا يَعكِس حُضورًا واثقًا ومتوازنا. هَذِه الإشارات الجسديَّة، اَلتِي يُشير إِليْهَا أَلبِرت مهرَّابْيان بِأنَّهَا تُشكِّل أَكثَر مِن نِصْف مَعنَى التَّواصل الإنْسانيِّ، عَززَت صُورَة قَائِد يَعرِف كَيْف يَفرِض اِحْترامه دُون رَفْع صَوتهِ، ويمْنح خِطابه وزْنًا وعمْقًا يَتَجاوَز الكلمات نَفسُها. بِالْإضافة إِلى ذَلكَ، أَضَاف اِختِيار اللَّوْن الأزْرق الفاتح فِي رَبطَة عُنُق فخامته، إِلى جَانِب البدْلة الزَّرْقاء الدَّاكنة، بُعْدًا بصريًّا مُتكاملا مع الخطَاب اللَّفْظيِّ؛ فاللَّوْنان يعْكسَان معًا اَلثقَة والرَّصانة والاسْتقْرار، لِيشكِّلوا وَحدَة لُغَويَّة وَبصرِية مُتكاملة تَنقُل الرِّسالة بِدقَّة وفعَّاليَّة، وَتبرِز البلاغة الحقيقيَّة فِي أُسلُوب القيادة المصْريَّة على المسْرح الدَّوْليِّ.
فضْلا عن ذَلكَ، التَّوْظيف الحجَّاجيّ فِي خِطَاب فَخامَة اَلرئِيس فِي بُروكْسل أَعَاد تَعرِيف مَفهُوم “اَلقُوة النَّاعمة” مِن مَنظُور لُغَوي. بدلا مِن الاعْتماد على العاطفة أو الشِّعارات التَّقْليديَّة، اِعتمَد فَخَامتَه على قُوَّة حَجاجِيه قَائِمة على اَلمنْطِق والْإقْناع. وفْقًا لِتيْوَان فَإِن دايكْ، اَللغَة لَيسَت مُجرَّد وَسِيلَة لِنَقل المعْنى فِي سِيَاق اِجْتماعيٍّ، بل أَدَاة لِممارسة النُّفوذ اَلرمْزِي وإعادة تَشكِيل المواقف. وَمِن هذَا المنْطلق، نجح فَخامَة اَلرئِيس فِي رَبْط الاسْتقْرار الدَّاخليِّ فِي مِصْر بِالْأَمْن الإقْليميِّ والدَّوْليِّ، مُقَدما مِصْر كَنَموذَج لِلتَّوازن بَيْن التَّنْمية والْواقعيَّة السِّياسيَّة، ومظْهَرًا كَيْف يُمْكِن لِلْخطَاب المدْروس أن يَكُون قُوَّة اِسْتراتيجيَّة على السَّاحة الدَّوْليَّة.
إِنَّ زِيارة بُروكْسل لَيسَت مُجرَّد مَحطَّة فِي جَدوَل دِبْلوماسيٍّ، بل فَصْل فِي كِتَاب الخطَاب اَلمصْرِي الحديث. اَللغَة اَلتِي اِسْتخْدمهَا فَخامَة اَلرئِيس كَانَت لُغَة بِنَاء لَا صدَّامْ، وَرُؤيَة لَا ردَّ فِعْل. فِي كُلِّ جُملَة كان ثَمَّة وَعْي بِأنَّ الخطَاب لَيْس تواصلا فقطْ، بل هُو مُمَارسَة سِياسِيَّة تُرسِّخ اَلهوِية الوطنيَّة المصْريَّة وتعيد إِنتَاج صُورَة مِصْر فِي الخارج. هذَا الوعْي اللُّغَويِّ هُو مَا يُميِّز القيادة اَلتِي تُفكِّر قَبْل أن تَتَحدثَ، وَالتِي تُدْرِك أنَّ اَلكلِمة قَادِرة على أنَّ تَغيُّر مَوازِين العلاقات أَكثَر مِمَّا تَفعَل الأسْلحة أو الاتِّفاقيَّات.
مِن النَّاحية التَّحْليليَّة، يُمْكِن القوْل إِنَّ مَا قَدمَه فَخامَة اَلرئِيس فِي بُروكْسل يُمثِّل تطْبيقًا حيًّا لِمفْهوم “القيادة الخطابيَّة” اَلتِي تُوحِّد بَيْن الفكْر السِّياسيِّ والْوَعْي اللُّغويِّ. فالْقائد اَلذِي يُحْسِن اِسْتخْدام اَللغَة يَستطِيع أن يُعيد تَعرِيف مَوقِع بَلدِه فِي العالم، وأن يَخلُق مِساحَات جَدِيدَة لِلْحوار. وَهذَا مَا حدث بِالْفِعْل فِي اَلقِمة الأوروبِّيَّة، حَيْث تَجاوَز الخطَاب اَلمصْرِي النَّمط التَّقْليديُّ إِلى خِطَاب اِسْتراتيجيٍّ مُبادِر، أَعَاد صِياغة مَفاهِيم الأمْن والتَّنْمية والْهويَّة الوطنيَّة المصْريَّة ضِمْن إِطَار عَالَمِي مُتوازن.
وعنْد تَأمُّل المشْهد فِي مُجملهِ، يَتَبيَّن أنَّ الزِّيارة لَم تَكُن مُجرَّد سِلْسلة لِقاءَات رسْميَّة، بل كَانَت تجْسيدًا حيًّا لِبلاغة سِياسِيَّة حديثَة، تَدَاخلَت فِيهَا اَلكلِمة بِالنَّظْرة، وَالفِعل بِالْمعْنى، لِتصوغ حُضورًا لُغَويا راقيًا لِلدَّوْلة المصْريَّة على السَّاحة الدَّوْليَّة. وَمِن هُنَا، يُصْبِح مِن حقِّ المواطن اَلمصْرِي أن يَشعُر بِالْفخْر، فحين تَتَحدَّث مِصْر، لَا يَنطِق صَوتُها بِالْحاضر فقطْ، بل يُعيد التَّاريخ صِياغة نَفسِه بِلغتها، وتنْهض مِن بَيْن كلماتهَا صُورَة القيادة اَلتِي لَا تُقَاس بِمَا تُديره، بل بِمَا تُلْهِم بِه شَعبُها، حِين تَجعَل مِن اَللغَة فِعْلا وطنيًّا يُعبِّر عن فِكْر واعٍ ومسْؤوليَّة لَا تَعرِف التَّراجع.
حِفْظ اَللَّه مِصْر ورئيسهَا اَلجُسور المقْدام، حَارِس السِّيادة ودرْع الكرامة، وَشَعبهَا العريق. وأبْقى مِصْر حِصْنًا لِلْكرامة والسِّيادة، لِتَظل رايتَهَا عاليَةً، وَشَعبهَا آمنًا مُطْمئنًّا، يَنعَم بِالْأَمْن والسَّلام والاسْتقْرار.