
بَلاغَة الشُّكْر والْإيمان فِي خِطابَات فَخامَة اَلرئِيس حَوْل بِنَاء الجمْهوريَّة الجديدة
مِن يَتَأمَّل فِي خِطابَات فَخامَة اَلرئِيس عَبْد الفتَّاح السِّيسي عَبْر السَّنوات يَلحَظ ظَاهِرة فَرِيدَة فِي الخطَاب السِّياسيِّ العربيِّ: حُضُور لُغَة الشُّكْر لِلَّه بِوصْفِهَا رَكِيزَة فِكْريَّة وأخْلاقيَّة تَتَجاوَز المأْلوف فِي لُغَة السِّياسة. فالشُّكْر فِي خِطَاب فخامَته لَيْس تعْبيرًا دِينيًّا عابرا، بل هُو رُؤيَة فَلسفِية مُتكاملة لِإدارة الدَّوْلة تَقُوم على الإيمان بِالْفَضْل الإلهيِّ، والْمسْؤوليَّة الإنْسانيَّة فِي حِمايَته وتنْميته. إِنَّ الشُّكْر عِنْد فَخامَة اَلرئِيس يَتَحوَّل مِن عِبادة فَردِية إِلى مَنهَج دوْلة، وَمِن قِيمة أخْلاقيَّة إِلى مَشرُوع وطنيٍّ.
فِي حَفْل تَخرِيج دُفعَة جَدِيدَة مِن طُلَّاب أكاديميَّة الشُّرْطة يَوْم 7 أُكتُوبَر 2025، قال الرَّئيس: «نشْكر اَللَّه على السَّلَام والْأَمْن والاسْتقْرار اَلذِي تَنعَم بِه مِصْر، وَهُو فَضْل كبير لَا بُدَّ أن نُقَدرَه وندافع عَنْه» . فِي هذَا القوْل تَتَجلَّى بِنْيَة لُغَويَّة مَحْكَمة تَربُط بَيْن الإيمان وَالفِعل الوطنيِّ. فالتَّكْرار الثُّلاثيُّ «السَّلام، الأمْن، الاسْتقْرار» يَبنِي إِيقاعًا لُغَويا صاعدًا يُرسِّخ فِي وَعْي السَّامع شُعورًا بِالنِّعْمة والْمسْؤوليَّة فِي آن واحد. هذَا الخطَاب يَعكِس مَا أَشَار إِلَيه نُورْمَان فِيركْلاف فِي تحْليله لِلْخطَاب بِوصْفه مُمَارسَة اِجْتماعيَّة تَتَقاطَع فِيهَا اَللغَة مع السُّلْطة، حَيْث تَتَحوَّل المفْردات الدِّينيَّة إِلى أَدوَات لِبناء الوعْي اَلجمْعِي وَتعزِيز اَلصلَة بَيْن الإيمان والْعَمل الوطنيِّ، فالشُّكْر هُنَا لَيْس مُجرَّد مَوقِف وِجْدانيٍّ، بل أَدَاة لُغَويَّة لِإنْتَاج الانْتماء وَتعزِيز التَّماسك الاجْتماعيِّ، وَهِي إِحْدى وَظائِف الخطَاب اَلتِي شَدَّد عليْهَا فِيركْلاف فِي نَمُوذَج التَّحْليل الثُّلاثيِّ (النَّصُّ، الممارسة الخطابيَّة، الممارسة الاجْتماعيَّة) .
وَفِي كَلمَتِه أَمَام قِمَّة شَرْم الشَّيْخ لِلسَّلَام يَوْم 13 أُكتُوبَر 2025، اِسْتخْدم فَخَامتَه لُغَة إِيمانيَّة عَمِيقَة حِين قَالَ: «نشْكر اَللَّه اَلذِي هدانَا إِلى طريق يَطوِي صَفحَة الألم ويفْتح صَفحَة الأمل» . هذَا القوْل يُمْكِن قِراءَته مِن مَنظُور تَيْوان فَإِن دايكْ، اَلذِي رَكَّز على اِسْتراتيجيَّات التَّمْثيل المعْرفيِّ لِلذَّات والْآخر فِي الخطَاب السِّياسيِّ. فَفَخامَة اَلرئِيس هُنَا يُقدِّم الذَّات المصْريَّة بِوصْفِهَا” الهادية إِلى الأمل “فِي مُقَابِل “الآخر” اَلذِي يُمثِّل الألم والصِّراع. هذَا التَّشْكيل الثُّنائيِّ يُعيد بِنَاء صُورَة مِصْر فِي الوعْي اَلجمْعِي كَفاعِل أخْلاقيٍّ يَسعَى إِلى السَّلَام بِتكْلِيف إِلهيٍّ. إِنَّها مُمَارسَة لُغَويَّة وَاعِية لِلتَّحَكُّم فِي الإدْراك اَلجمْعِي وإعادة إِنتَاج سَردِية الوطنيَّة عَبْر مُفردَات الإيمان.
وَفِي اِحتِفال لَيلَة القدر بِمرْكز المنارة يَوْم 5 أَبرِيل 2024، قال فَخامَة الرَّئيس: «أتوَجَّه بِخالص الدُّعَاء إِلى اَللَّه تَعالَى أن يَحفَظ وَطنُنا وأن يُبَارِك جُهُود أبْنائه المخْلصين» . هذَا الخطَاب يُجسِّد مَا تَصفُه رَوْث وُوداك ب ” المنْهج التَّاريخيِّ فِي تَحلِيل الخطَاب”، اَلذِي يَربُط اَللغَة بِسياقهَا الاجْتماعيِّ والسِّياسيِّ. ففخامته يُوظِّف الدُّعَاء هُنَا كَأَداة رَمزِية لِإعادة إِنتَاج عَلاقَة الدَّوْلة بِالْمجْتمع فِي إِطَار تَعبَوِي جامع. الدُّعَاء يُصْبِح وَسِيلَة لِخَلق شُعُور بِالْمشاركة فِي المسْؤوليَّة الوطنيَّة. وَفْق مَنظُور وُوداكْ، الخطَاب السِّياسيُّ النَّاجح هُو اَلذِي يُعيد إِنتَاج اَلهوِية الجمْعيَّة مِن خِلَال الرُّموز المشْتركة، والدِّين فِي هذَا السِّيَاق يُصْبِح لُغَة لِلتَّعْبئة الأخْلاقيَّة والاجْتماعيَّة.
وَفِي الاحْتفال بِذكْرى اَلموْلِد النَّبَويِّ اَلشرِيف يَوْم 2 سِبْتمْبر 2025، قال فخامته: «نسْتلْهم مِن سِيرة الرَّسول قِيم الأمانة والرَّحْمة والْعَمل والْإخْلاص، ونجدِّد العزْم على أن تَكُون مِصْر قُدوَة فِي نَشْر النُّور والْخَيْر» . هذَا الخطَاب يُمْكِن تحْليله فِي ضَوْء أَفكَار مِيشيل فُوكُو عن الخطَاب بِوصْفه أَدَاة لِإنْتَاج المعْرفة والسُّلْطة. ففْحامة اَلرئِيس يُوظِّف المرْجعيَّة النَّبويَّة لِإعادة تَأسِيس النِّظَام القيَميِّ اَلذِي يَحكُم عَلاقَة الدَّوْلة بِالْمجْتمع، ويعيد تَعرِيف السُّلْطة السِّياسيَّة بِاعْتبارهَا اِمْتدادًا لِلْقيم الأخْلاقيَّة. فُوكُو يرى أنَّ الخطَاب لَا يَنقُل السُّلْطة فحسْب، بل يُنْتجهَا عَبْر تَكْرار القيم وضبْط المعاني. وَمِن هُنَا يُمْكِن القوْل إِنَّ فَحامَة اَلرئِيس يَستخْدِم لُغَة الرَّحْمة والْعَمل كآليَّات رَمزِية لِإنْتَاج “الانْضباط الوطَنيِّ” اَلذِي يَجمَع بَيْن الوازع الدِّينيِّ والْمسْؤوليَّة المدنيَّة.
وَفِي خِطَاب القسم أَمَام مَجلِس النُّوَّاب يَوْم 1 أَبرِيل 2024، اِستهَل فَخامَة اَلرئِيس كَلِمتَه بِآيتي اَلحُكم والْملك: «قل اللَّهمَّ مَالِك اَلملْكِ. . .» و«ربٌّ قد أتيْتني مِن اَلملْكِ. . .». هذَا الافْتتاح يُبْرِز مَا يُسَميه فِيركْلاف “التَّنَاصُّ”، أيُّ تَوظِيف النُّصوص المقدَّسة دَاخِل الخطَاب السِّياسيِّ لِإضْفَاء بُعْد قِيَمي وَروحِي يَمنَح الممارسة السِّياسيَّة عُمْقًا أخْلاقيًّا يَتَجاوَز فِكْرَة الشَّرْعيَّة الشَّكْليَّة. فالرَّبْط بَيْن القسم أَمَام اَللَّه والشَّعْب فِي عِبارة «أعاهد اَللَّه وأعاهدكمْ» يُمثِّل توازنًا دقيقًا بَيْن اَلمُقدس والْمدنيِّ، وَهُو مَا يُعيد إِنتَاج مَفهُوم السُّلْطة كَتكلِيف إِلَهي ومسْؤوليَّة وطنيَّة. هذَا الدَّمْج بَيْن المرْجعيَّة الدِّينيَّة والالْتزام المدَنيِّ يُعيد تَشكِيل العلاقة بَيْن القيادة والشَّعْب فِي ضَوْء مَفهُوم فُوكُو لِلْخطَاب بِوصْفه أَدَاة لِتنْظِيم السُّلْطة وَتوجِيه السُّلوك الجمْعيِّ.
يَتضِح مِن مُجمَل هَذِه الخطابات أنَّ فَخامَة اَلرئِيس قد أَسَّس نمطًا خاصًّا مِن الخطَاب السِّياسيِّ الإيمانيِّ، يَقُوم على الدَّمْج بَيْن القيم الدِّينيَّة والْمبادئ الوطنيَّة فِي إِطَار لُغَوي مُنظَّم وَواضِح. بِتحْلِيل خِطابه فِي ضَوْء نُورْمَان فِيركْلاف وتيْوَان فَإِن دَايِك وروْث وُوداك وَميشِيل فُوكو، نَكتَشِف أنَّ الشُّكْر عِنْد فَخامَة اَلرئِيس لَيْس لُغَة وِجْدانيَّةً، بل أَدَاة فِكْريَّة لِإدارة الدَّوْلة. إِنَّه خِطَاب يَنتِج الوعْي الجمْعيُّ، ويؤسِّس لِلثِّقة الوطنيَّة عَبْر مَنظُومة قِيميَّة تَستَنِد إِلى الإيمان بِالْفَضْل الإلهيِّ، والْعَمل الوطنيُّ، والْمشاركة الجماعيَّة فِي التَّنْمية. بِهَذه الصِّيغة، يَتَحوَّل الشُّكْر إِلى فَلسفَة سِياسِيَّة تَصُوغ العلاقة بَيْن المواطن والدَّوْلة، وتعيد تَعرِيف الوطنيَّة فِي ضَوْء الأخْلاق والْإيمان والْعمل.
إِنَّ خِطابَات فَخامَة الرَّئيس، حِين تَقرَأ مِن مَنظُور تَحلِيل الخطَاب الحديث، تَكشِف عن مَشرُوع لُغَوي مُتَكامِل لِإعادة بِنَاء الوعْي اَلجمْعِي فِي مِصرَ. فَهِي تَربُط بَيْن الإيمان والْفعْل، بَيْن الوجْدان والسِّياسة، وتعيد صِياغة مَفهُوم اَلقُوة لَا بِوصْفِهَا سُلْطةً، بل مسْؤوليَّةً. بِهَذا المعْنى، يُصْبِح الشُّكْر لَيْس فقط مِحوَرا لُغويًّا، بل رُؤيَة اِسْتراتيجيَّة تُنظِّم عَلاقَة الدَّوْلة بِمواطنيهَا على أَسَاس مِن المشاركة والاعْتراف بِالْفَضْل الإلَهيِّ فِي تَحقِيق الأمْن والتَّنْمية.
إِنَّ حُضُور الشُّكْر فِي خِطابَات فَخامَة اَلرئِيس يُعيد إِلى السِّياسة بُعدَهَا الأخْلاقيَّ اَلذِي غاب طويلا عن الخطَاب العربيِّ. فَهُو يُعيد تَعرِيف القيادة فِي ضَوْء التَّقْوى، والْعَمل اَلْعام فِي ضَوْء الأمانة، والْوَطن فِي ضَوْء النِّعْمة. وَلعَل هذَا مَا يَجعَل خِطابه نموذَجًا فريدًا فِي تَوظِيف الدِّين كَقوَّة بَنَّاءة لَا دِعائيَّةً، وكمرْجعيَّة فِكْريَّة تُعيد صِياغة عَلاقَة الإنْسان بِوطنِه. فخطاب فَخامَة اَلرئِيس السِّيسي لَيْس مُجرَّد بَلاغَة سِياسيَّة، بل مَشرُوع وَطنِي أخْلاقيٌّ، يُدْمِج الإيمان بِالْإنْجاز، ويجْعل مِن الشُّكْر طريقًا نَحْو السَّلَام والْعمْران، وَمِن اَللغَة أَدَاة لِبناء اَلضمِير اَلجمْعِي لِلْأمَّة المصْريَّة.
وَلِهذَا يَستَحِق فَخامَة اَلرئِيس عَبْد الفتَّاح السِّيسي أن يُذكَر فِي تَارِيخ مِصْر اَلحدِيث بِوصْفه زعيم الشُّكْر والْإيمان، وَبانِي السَّلَام والْعمْران، اَلذِي جعل مِن اَلكلِمة عهْدًا وَمِن الخطَاب مشْروعا، وَمِن اَللغَة طريقًا نَحْو نَهضَة اَلضمِير الوطَنيِّ المصْريِّ.