اَللَّه أَكبَر. . . نِدَاء الوحْدة وَبذْرَة التَّنْمية المسْتدامة فِي خِطَاب أُكتُوبَر

حِين اِنْطلَقتْ صَيْحات “اَللَّه أَكبَر” فِي سَمَاء سَيْناء عام 1973، لَم تَكُن مُجرَّد شِعَار حَربِي يُرَدده اَلجُنود فِي لَحَظات القتال. كَانَت رمْزًا جامعًا لِلْهوِيَّة المصْريَّة، وصوْتًا واحدًا يُعبِّر عن وَحدَة وَطَنيَّة تَتَجاوَز الفوارق الدِّينيَّة والاجْتماعيَّة. هذَا الشِّعَار حمل فِي طَياتِه قُوَّة لُغَويَّة وخطابيَّة جَعلَت مِنْه أَدَاة لِبناء الوعْي الجمْعيِّ، ومصْدَرًا لِإلْهَام التَّنْمية الوطنيَّة المسْتدامة بَعْد اَلحرْبِ.

مِن مَنظُور عِلْم اَللغَة وَتحلِيل الخطاب، تَتَجلَّى فِي عِبارة “اَللَّه أَكبَر” خَصائِص لُغَويَّة ومعْنويَّة تَجمَع بَيْن البساطة والْعمْق. اَلكلِمة اَلأُولى “اَللَّه” هِي مِحوَر الإيمان والْوجود فِي الوعْي اَلجمْعِي لِلْمصْريِّين، مُسْلمِين ومسيحيِّين على حدٍّ سواء. فَهِي تُشير إِلى الذَّات الإلهيَّة اَلتِي يَتَشارَك اَلجمِيع فِي تقْديسهَا رَغْم اِختِلاف العقيدة. أَمَّا اَلكلِمة الثَّانية “أَكبَر”، فَهِي صِيغة تَفضِيل تَحمُّل دَلالَة اَلقُوة المطْلقة اَلتِي لَا يُنازعهَا أحد. اِجتِماع الكلمتيْنِ يَخلُق خِطابًا يَتَجاوَز الأدْيان لِيعبِّر عن فِكْرَة التَّوْحيد الإنْسانيِّ أَمَام التَّحدِّيات الكبْرى.

فِي مَيْدَان اَلحرْبِ، لَم يَكُن الشِّعَار مُجرَّد وَسِيلَة تَعبِئة نفْسيَّة، بل آليَّة لُغَويَّة لِإنْتَاج المعْنى اَلجمْعِي وإعادة تَشكِيل اَلهوِية الوطنيَّة. فعنْدَمَا صاح اَلجُنود “اَللَّه أَكبَر” أَثنَاء عُبُور قَنَاة السُّويْس، لَم يُعْلنوا فقط بَدْء المعْركة، بل عَبرُوا عن أنَّ الحرْب كَانَت حَرْب وطن لَا حَرْب دِيانَة. لِذَلك أَصبَح الشِّعَار جامعًا لِلْمسْلمين والْمسيحيِّين على السَّواء، إِذ رَددَه اَلجمِيع بِصَوت وَاحِد فِي لَحظَة وَحدَة نادرَة. فالْمسيحيُّ المصْريُّ، وَهُو يُردِّد مع زَميلِه اَلمسْلِم “اَللَّه أَكبَر”، لَمٌّ يَشعُر بِالاخْتلاف، بل بِالْإيمان المشْترك بِالْهَدف ذَاتهِ: اِسْترْداد الأرْض والْكرامة.

وَمِن مَنظُور تَحلِيل الخطاب، يُمْكِن النَّظر إِلى عِبارة “اَللَّه أَكبَر” كخطاب أَدائِي يَحدُث الفعْل بِمجرَّد النُّطْق بِه. فالْكلمة لَم تَكُن وصْفًا لِلْحال، بل صَانِعة لَهُ. كَانَت لَحظَة تَردِيد الشِّعَار لَحظَة تَحوُّل لُغَوي وَفعلِي معا، إِذ اِرْتبَطتْ بِبَدء اَلهُجوم وَعبُور القنَاة وَتحقِيق اَلنصْرِ. وهكذَا تَحوَّل الخطَاب إِلى قُوَّة اِجْتماعيَّة حَركَت السُّلوك اَلجمْعِي وَأَعادَت تَشكِيل الواقع.

تاريخيًّا، يُظْهِر تَحلِيل الإعْلام اَلمصْرِي أَثنَاء الحرْب كَيْف تَحوَّل الشِّعَار إِلى مِحوَر لِخطاب تَعبَوِي مُتكامل. اِسْتخْدمتْه الإذاعة والتِّلفزْيون فِي نَشَرات الأخْبار والْأغاني الوطنيَّة مِثْل “بِسْم اَللَّه” و”على الرَّبابة”، حَيْث كَانَت اَللغَة مُفعَمَة بِالرُّموز الدِّينيَّة والْوطنيَّة فِي آن واحد. لَم يَكُن المقْصود أَسلَمة الخطَاب العامِّ، بل تَوظِيف لُغَة الإيمان المشْترك كَوَسيلَة لِتوْحِيد الشُّعور الجمْعيِّ. فالدِّين هُنَا لَم يَكُن أَدَاة فصْل، بل وَسِيلَة تَماسُك اِجْتماعيٍّ.

على المسْتوى المجْتمعيِّ، جسد الشِّعَار جَوهَر العبارة الخالدة “الدِّين لِلَّه والْوَطن لِلْجمِيع”. فَقْد وَقْف اَلقَس والْكاهن إِلى جَانِب الشَّيْخ والْإمام فِي الجبْهة الدَّاخليَّة، يُوحِّدهم هدف وَطنِي واحد. وكانتْ خِطابَات البابَا شُنُودَة الثَّالث آنذاك تجْسيدًا لِهَذا التَّلاحم حِين قَالَ: “مِصْر وطن يعيش فِينَا لَا وطن نعيش فِيه”. وهكذَا أَصبَحت عِبارة “اَللَّه أَكبَر” رمْزًا لِلْوحْدة الوطنيَّة اَلتِي جَمعَت المصْريِّين، مُسْلمِين ومسيحيِّين، على قَلْب واحد، مُؤْمنِين بِأنَّ الدِّفَاع عن الوطن عِبادَةً، وأنَّ اَلقُوة الحقيقيَّة فِي التَّعَدُّد حِين يصْهره الانْتماء.

فِي ضَوْء عِلْم اَللغَة الاجْتماعيِّ، يُمْكِن القوْل إِنَّ “اَللَّه أَكبَر” أَدَّى وَظِيفَة لُغَويَّة مُزْدوجةً: التَّعْبير عن الانْتماء، والتَّحْفيز على التَّحَرُّك الجماعيِّ. لَم يَكُن الخطَاب هُنَا أُحَادِي الاتِّجاه، بل تفاعليًّا، شَارَك فِيه المصْريُّون، مُسْلمون ومسيحيُّون، عَبْر التَّرْديد الجماعيِّ، مِمَّا عَزَّز الإحْساس بِالْمصير الواحد. وَهذَا مَا جعل الشِّعَار نموذَجًا لِخطاب تَعبَوِي نَاجِح مِن حَيْث البنْية اللُّغويَّة والدَّلاليَّة والتَّأْثير النَّفْسيُّ.

مِن مَنظُور التَّنْمية الإنْسانيَّة المسْتدامة، يُؤكِّد دَرْس أُكتُوبَر وشعاره أنَّ أيَّ مَشرُوع وَطنِي نَاجِح يَقُوم على خِطَاب جامع. فالتَّنْمية لَا تَعنِي تَشيِيد اَلجُسور والْمصانع فحسْب، بل بِنَاء الإنْسان وَتعزِيز قُدْرته على المشاركة والتَّضامن. وَكَان شِعَار “اَللَّه أَكبَر” نَوَاة لِهَذا الخطاب، إِذ أَعَاد تَعرِيف اَلقُوة بِوصْفِهَا طَاقَة جَماعِية تَقُوم على الإيمان بِالذَّات وبالْآخر.

ويمْتدَّ أثر الشِّعَار إِلى مَفهُوم التَّنْمية المسْتدامة كمَا تُحَدده أَهدَاف اَلأُمم المتَّحدة (SDGs) ، خَاصَّة فِي مجالَات الاسْتقْرار الاجْتماعيِّ والْمواطنة المتساوية والتَّعْليم. فَقْد جسد “اَللَّه أَكبَر” رُوح الوحْدة الوطنيَّة اَلتِي شَكلَت أَسَاس الاسْتقْرار السِّياسيِّ والاجْتماعيِّ، ووحَّدتْ المصْريِّين، مُسْلمِين ومسيحيِّين، حَوْل هدف مُشتَرَك يُعزِّز السِّلْم اَلأهْلِي ويمهِّد لِسياسات تَنموِية طَوِيلَة الأمد تَشمَل تَطوِير البنْية التَّحْتيَّة وَتحسِين الخدْمات والنُّهوض بِالتَّعْليم والصِّحَّة (SDG 16) ، كمَا أنَّ تَوظِيف شِعَار دِينيٍّ فِي سِيَاق وَطنِي جَامِع رسخ قِيم المساواة والْمواطنة المشْتركة (SDG 10) ، فَعزَّز شُعُور جميع فِئَات المجْتمع بِالانْتماء والْمسْؤوليَّة المشْتركة.

ويتجَلَّى أثر الشِّعَار أيْضًا فِي التَّعْليم والتَّوْعية (SDG 4) ، إِذ يُسَاهِم إِدمَاج تَجرِبة حَرْب أُكتُوبَر وشعارهَا فِي المناهج فِي تَرسِيخ قِيم التَّضْحية والانْتماء، وَتعلِيم الأجْيال أنَّ اَلهوِية الوطنيَّة تَتَجاوَز الانْقسامات الدِّينيَّة، وأنَّ الإيمان بِوَطن مُشتَرَك هُو مَصدَر اَلقُوة والاسْتمْرار. وهكذَا تَجاوُز الشِّعَار مَعْنَاه اَلحرْبِي إِلى خِطَاب تَنمَوِي شَامِل يُعزِّز السِّلْم المجْتمعيُّ، ويرسِّخ العدالة والْمساواة، ويغذِّي الوعْي الوطنيُّ، لِيصْبح  نموذَجًا على تَوظِيف اَللغَة فِي خِدْمَة التَّنْمية المسْتدامة وبناء الإنْسان قَبْل البنْيان.

اَلْيَوم، بَعْد أَكثَر مِن نِصْف قَرْن على اَلحرْبِ، يَبقَى الشِّعَار حاضرًا فِي الذَّاكرة الجماعيَّة، لَيْس كنداء لِلْقتال، بل كرمْز لِلْوحْدة والتَّجدُّد. إِنَّ إِعادة قِراءة شِعَار “اَللَّه أَكبَر” مِن مَنظُور عِلْم اَللغَة وَتحلِيل الخطَاب والتَّنْمية المسْتدامة تُساعدنَا على فَهْم كَيْف يُمْكِن لِلْكلِمة أن تَصنَع التَّاريخ، وكيْف يُمْكِن لِلْخطَاب أن يَكُون مَدْخَلا لِإعادة بِنَاء الوعْي الوطنيِّ. فَكُل نَهضَة تَبدَأ بِكلمَة، وَكُل كَلمَة تَحمِل مَشرُوعا إِذَا اِمْتلَكتْ اَلقُدرة على الجمْع لَا التَّفْريق.

فِي النِّهاية، لَم يَكُن شِعَار “اَللَّه أَكبَر” مُجرَّد صَوْت يَتَردَّد فِي السَّماء، بل كان خِطابًا جامعًا أُسُس لِوحْدة وَطَنيَّة أَنتَجت نصْرًا وَتَطورَت إِلى تنْميَة. إِنَّه مِثَال نَادِر على تَلاقِي اَللغَة والدِّين والْوَطن فِي مَشرُوع إِنْسانيٍّ واحد، يُظْهِر أنَّ التَّنْمية تَبدَأ مِن الخطاب، وأنَّ اَلكلِمة الصَّادقة قَادِرة على تَوحِيد شَعْب وَصُنع مُسْتقْبل.

حِفْظ اَللَّه مِصْر ورئيسهَا وأبْناءهَا، مُسْلمِين ومسيحيِّين، وَأَدام عليْنَا جميعًا اَلحُب والسَّلام، وجعْل مِن وَحدتِنا طريقًا دائمًا لِلتَّنْمية والازْدهار.

Scroll to Top