فِي صَبَاح عاديٍّ، وَبَينمَا كُنْت أَستَعد لِلتَّوَجُّه إِلى كُليَّة الآدَاب بِجامِعة أَسيُوط لِإلْقَاء مُحاضراتي فِي عِلْم اللُّغويَّات والتَّرْجمة، اِسْتمَعتْ عَبْر أُثير الإذاعة المصْريَّة إِلى إِعلَان قصير جاء بَيْن البرامج اليوْميَّة اَلتِي أَحرِص دوْمًا على مُتابعتها. الإعْلان كان يقول: “اَلمِية رَأْس مالنَا، لِينًا إِحنَاء وعيالنا، هنْصونهَا بِعْنينا، الدُّنْيَا تَحلَّى لَنَا”.
تَوقفَت عِنْد هَذِه الكلمات الغنائيَّة ذات اللَّحْن الرَّنَّان طويلاً، فَهِي لَيسَت مُجرَّد شِعَار دِعائيٍّ عابر، بل خِطَاب يَحمِل فِي طَياتِه رِسالة تَتَجاوَز حُدُود الإعْلان إِلى عُمْق التَّنْمية المسْتدامة وَالحِس الوطَنيِّ المشْترك. لَقد لَفتتْنِي هَذِه الصِّياغة لِأنَّهَا نَجحَت فِي أن تُعيد رَسْم عَلاقَة المواطن بِالْمياه بِاعْتبارهَا ثَروَة وطنيَّة، وليْستْ مُجرَّد خِدْمَة مَنزلِية أو مَورِد طَبيعِي.
مِن النَّاحية اللُّغويَّة، يَقُوم الإعْلان على أَربَعة أَعمِدة أَساسِية تَتَكامَل فِي صِياغة بَلِيغَة ومؤثِّرة. تَبدَأ الرِّسالة بِجمْلة اِفْتتاحيَّة قَويَّة هِي ” اَلمِية رَأْس مالنَا، اَلتِي تُختَزَل الفكْرة كُلهَا وَتضَع اَلْماء فِي مَقَام رَأْس اَلْمال الاقْتصاديِّ والاجْتماعيِّ، بِمَا يُشْبِه قِيمته بِالْعمْلة الصَّعْبة أو الثَّروات الطَّبيعيَّة. ثُمَّ تَأتِي العبارة الثَّانية “لِينًا إِحنَا وعيالنَا”، لِتوسُّع الدَّائرة مِن الحاضر إِلى المسْتقْبل، وَمِن الفرْد إِلى الجماعة، مُؤَكدَة أنَّ حِماية اَلْماء لَيسَت مسْؤوليَّة شَخصِية فحسْب، بل اِلتِزام جَماعِي مُمتَد إِلى الأجْيال القادمة. أَمَّا اَلجُملة الثَّالثة “هنْصونهَا بِعْنينَا”، فَهِي تَعبِير شَعبِي دَافِئ يَجعَل اَلْماء أَمانَة تُصَان بِالْعَيْنِ والْقَلْب معا، فِي إِشارة إِلى رِقابة ذَاتِية ووعْي وِجْدانيٍّ يُرسِّخ قِيمة المشاركة الفرْديَّة.
وتخْتَتم الرِّسالة بِعبارة ” الدُّنْيَا تَحلَّى لَنَا اَلتِي تَربُط مُبَاشرَة بَيْن صَوْن الميَاه وَجوْدَة الحياة، لِتؤكِّد أنَّ الحفَاظ على اَلْماء يَعنِي حَيَاة أَفضَل وَواقِعا أَكثَر إِشْراقا. هَذِه الصِّياغة البسيطة، بِبلاغتهَا الشَّعْبيَّة، تُمثِّل نموذَجًا يَدرُس فِي اللُّغويَّات التَّطْبيقيَّة، لِأنَّهَا تُظْهِر كَيْف يُمْكِن لِلُّغة أن تَتَحوَّل إِلى أَدَاة فَاعِلة فِي تَحقِيق أَهدَاف التَّنْمية المسْتدامة. الإعْلان لَم يَستخْدِم لُغَة تِقْنيَّة جَافَّة أو خِطابًا إِنْشائيًّا تقْليديًّا، بل لَجأ إِلى الموسيقى اللَّفْظيَّة، والْإيقاع اَلسلِس، واللُّغة اليوْميَّة اَلتِي تَلتَصِق بِالذَّاكرة. وَهنَا تَتَجلَّى العلاقة المباشرة بَيْن اللُّغويَّات وَترشِيد الموارد، فالْكلمة الموجزة قد تُحْدِث أثرًا لَا تُحَققه عَشَرات اَلخُطب المطوَّلة.
إِنَّ أَزمَة الميَاه فِي مِصْر لَيسَت خَافِية على أحد. فمع تَزايُد عدد السُّكَّان، وتحدِّيات التَّغَيُّر المناخيِّ، وَضغُوط مِلفِّ سدِّ النَّهْضة، تُبْرِز الميَاه كَأحَد أهمِّ مَفاتِيح الأمْن القوْميِّ. لِذَلك جاء هذَا الإعْلان كَتَرجمَة رَمزِية لِلسِّياسات المائيَّة اَلتِي تُنَفذهَا الدَّوْلة، بدأ مِن مشْروعات تَبطِين التُّرَع، ومحطَّات مُعَالجَة المياه، وُصولا إِلى التَّوَسُّع فِي تَحلِية مِيَاه اَلبحْرِ. وَكَّل هَذِه اَلجُهود لَا يُمْكِن أن تُؤْتِي ثِمارَهَا دُون وَعْي المواطن، وَهُو مَا يَسعَى الإعْلان إِلى تحْقيقه عَبْر اللُّغَة، إِذ جعل مِن الألْفاظ البسيطة والْجَمل الموجزة وَسِيلَة لِبناء وَعْي جديد لَدى المواطن، فالْكلمات المخْتارة بِعناية لَا تَكتَفِي بِنَقل رِسالة مُباشرة، بل تَغيَّر طَرِيقَة تَفكِير النَّاس فِي الميَاه وتدْفعهم إِلى التَّعامل مَعهَا كَقِيمَة اِقْتصاديَّة وأخْلاقيَّة يَجِب الحفَاظ عليْهَا.
مِن زَاوِية التَّنْمية المسْتدامة، فَإِن الحفَاظ على الميَاه يُمثِّل أحد أهمِّ أَهدَاف اَلأُمم المتَّحدة فِي أَجِندَة 2030. لَكِن مَا يُميِّز التَّجْربة المصْريَّة أَنهَا لَا تَنقُل هَذِه الأهْداف فِي صِياغة مُعقدَة، بل تَبسُطها إِلى خِطَاب جماهيريٍّ يَصِل إِلى المواطن العاديِّ، بل تَبسُطها إِلى خِطَاب جماهيريٍّ يَصِل إِلى المواطن العاديِّ. وَهنَا تَتَجلَّى عَبقرِية الدَّمْج بَيْن التَّخْطيط التَّنْمويِّ والْوَعْي اللُّغويِّ.
يَكشِف هذَا الإعْلان عن اَلبُعد التَّداوليِّ لِلُّغة، إِذ لَا تَقتَصِر على كوْنهَا أَدَاة لِلتَّواصل، بل تَتَحوَّل إِلى خِطَاب إِقْناعيٍّ يُوظِّف قُوَّة الكلمات فِي التَّأْثير على المتلقِّي. فاللُّغة هُنَا تَقُوم بِدَور تحْفيزيٍّ يَسعَى إِلى تَشكِيل الوعْي المجْتمعيِّ وَتوجِيه السُّلوك نَحْو مُمارسات أَكثَر مسْؤوليَّة، بِمَا يَعكِس قُدْرتَهَا على إِنتَاج الفعْل لا مُجرَّد نَقلهِ. فاللُّغويَّات تُعَلمنَا أنَّ الخطَاب حِين يُصَاغ بِلغة قَرِيبَة مِن الوجْدان، يَتَحوَّل إِلى قُوَّة دَافِعة لِلتَّنْمية. وهكذَا يَلتَقِي اَلْماء كَقِيمَة اِقْتصاديَّة، مع التَّنْمية كَهدَف اِسْتراتيجيٍّ، ومع اَللغَة كَأَداة لِلتَّأْثير فِي سُلُوك النَّاس.
خُلَاصَة اَلقوْلِ، لَا بُدَّ مِن التَّأْكيد أنَّ هَذِه اَلجُهود لَا تَنفَصِل عن الرُّؤْية الوطنيَّة اَلتِي يقودهَا فَخامَة اَلرئِيس عَبْد الفتَّاح السِّيسي، اَلذِي أَولَى قَضيَّة الميَاه أَولوِية قُصوَى بِاعْتبارهَا أَسَاس الحيَاة والتَّنْمية. فالْمشْروعات القوْميَّة، والسِّياسات المتوازنة، والْخطاب التَّوْعويُّ، كُلهَا تُشكِّل مَنظُومة مُتكاملة لِحماية رَأْس مال مِصْر الحقيقيِّ: الماء. وَمِن هُنَا فَإِن الشُّكْر مُستَحَق لِفخامته، وَلجُهود الدَّوْلة المصْريَّة اَلتِي لَا تَدخِر وُسْعًا فِي سبيل تَحقِيق أَمْن مَائِي مُسْتدام، يَصُون حَاضِر الوطن ويؤمِّن مُسْتقْبله.