أَيهَا المترْجم الشَّابُّ، لَا تَنخَدِع بِبريق التِّكْنولوجْيَا ولَا تَنجَرِف خَلْف سُرعَة الأدوات الحديثة دُون وَعْي بِمخاطرها. مَا تَشهدُه السَّاحة العالميَّة اليوْم مِن قرارَات حَاسِمة صَادِرة عن كُبْريَات شركات التَّرْجمة ومؤسَّسات الأعْمال لَيْس أمْرًا عارضا، بل تَحوُّل جَوهَرِي فِي فَهْم العلاقة بَيْن المترْجم والْآلة. فَقْد أَصدَرت هَذِه الشَّركات توْجيهات صَارِمة تَحظُر فِيهَا تمامًا الاسْتعانة بِأدوَات الذَّكَاء الاصْطناعيِّ فِي تَرجمَة أَنوَاع مُحَددَة مِن الوثائق، لِمَا فِي ذَلِك مِن خَرْق لِلْقانون وإخْلَال بِأخْلاقيَّات المهْنة ومبادئ السِّرِّيَّة المهْنيَّة.

فِي التَّرْجمة القانونيَّة، على سبيل المثال، تَعُد السِّرِّيَّة رَكِيزَة أساسيَّةً، لَا مَجَال فِيهَا لِلتَّجْريب أو التَّساهل. إِنَّ أيَّ عَقْد أو وَثِيقَة قَضائِية أو اِتِّفاق اِندِماج قَبْل توْقيعه يَعُد مَادَّة مَحمِية بِالْقانون. رَفْع هَذِه الوثائق على أَدَاة سَحابِية عَامَّة يُعَد اِنْتهاكًا مُباشِرًا لِخصوصيَّة العلاقة بَيْن المحامي وموكِّله، وقد يُؤدِّي إِلى عَواقِب قانونيَّة جسيمَة. المترْجم فِي هذَا الحقْل لَيْس ناقلا لِلْمعاني فحسْب، بل حَارِس لِثقة تَامَّة ومسْؤول عن حِماية مَضمُون الوثيقة مِن أيِّ تَسرُّب أو إِساءة اِسْتخْدام.

وَفِي المجَال الطِّبِّيِّ والصَّيْدلانيِّ، تَزْداد الخطورة تعْقيدا. فوثائق المرْضى، وتقارير التَّجارب السَّريريَّة، وبيانات الأبْحاث غَيْر المنْشورة تُصنِّف ضِمْن اَلْمَواد السِّرِّيَّة المحْميَّة بِتشْريعات دَولِية صَارِمة مِثْل قَانُون حِماية خُصوصِيَّة المرْضى الأمْريكيِّ. إِدخَال هَذِه اَلْمَواد فِي أَدوَات سَحابِية مَفتُوحة يُعَد خرْقًا قانونيًّا وأخْلاقيًّا لَا يُمْكِن تبْريره. المترْجم هُنَا مُؤتَمَن على حَيَاة النَّاس، وأيَّ تَساهُل فِي هذَا الجانب يُعَد خِيانة لِلْأمانة المهْنيَّة قَبْل أن يَكُون مُخَالفَة قانونيَّةً.

أَمَّا فِي التَّرْجمة المعْتمدة، فَإِن المسْؤوليَّة تَتَجاوَز الإتْقان اللُّغَويَّ إِلى الالْتزام القانونيِّ المباشر. المترْجم اَلذِي يُوقِّع على شَهادَة مِيلَاد أو وَثِيقَة رَسمِية مُتَرجمَة يُؤكِّد قَانُونا أَنَّه اِطَّلع على الأصْل وَأدَّى عَملُه بِدقَّة تامَّة. رَفْع هَذِه الوثائق الحسَّاسة إِلى خَوادِم خَارجِية دُون إِذْن صريح مِن صَاحبِها يُعَد خرْقًا لِقوانين حِماية البيانات الشَّخْصيَّة، مِثْل النِّظَام الأوروبِّيِّ اَلْعام لِحماية البيانات. إِنَّ أيَّ تَسرُّب ولو طفيف قد يَعرِض المترْجم لِلْمساءلة القانونيَّة وَرُبمَا لِفقْدَان اِعْتماده المهْنيِّ.

ولَا يَختَلِف الأمْر فِي التَّرْجمة الحكوميَّة والْعسْكريَّة، حَيْث تَعُد السِّرِّيَّة هُنَا مَسْأَلة أَمْن قوْميٍّ. هَذِه النُّصوص لَا تُترْجَم إِلَّا فِي بِيئات مُغلَقَة تمامًا لَا تَتصِل بِالْإنْترْنت، وتحْتَ إِشرَاف أَمنِي دقيق. اِسْتخْدام أَدوَات الذَّكَاء الاصْطناعيِّ فِي مِثْل هَذِه الوثائق يُعَد جَرِيمَة لََا يُمْكِن تبْريرهَا تَحْت أيِّ ذريعَة. المترْجم فِي هَذِه السِّياقات شريك فِي حِماية الدَّوْلة، لَا مُجرَّد مُوظَّف لُغَوي.
وَفِي التَّرْجمة الماليَّة، الخطر اِقْتصاديٌّ مُباشِر. تَرجمَة التَّقارير الماليَّة قَبْل نشْرهَا أو اَلخُطط الاسْتثْماريَّة أو بيانَات العملاء تَتَطلَّب أَعلَى دَرَجات الحذَر. أيُّ تَسرِيب ولو غَيْر مَقصُود قد يُؤدِّي إِلى تَداوُل دَاخلِي غَيْر مَشرُوع أو إِلى خَسائِر بِملايين الدُّولارات. الذَّكَاء الاصْطناعيُّ فِي هَذِه الحالة لَيْس وَسِيلَة مُساعدة، بل تَهدِيد مُحتَمَل لِاقْتصاد كامل.

حَتَّى التَّرْجمة السَّمْع بَصَريَّة تَخضَع اليوْم لِضوابط أَمنِية دقيقَة. شركات الإنْتاج اَلكُبرى مِثْل نِتفْليكْس وَديزْنِي تَمنَع منْعًا باتًّا تَحمِيل النُّصوص أو المقاطع على أيِّ أَدَاة ذَكَاء اِصْطناعيٍّ عامَّة. أيُّ تَسرِيب لِمشْهد قَبْل عَرضِه قد يُنْهِي مَسِيرَة المترْجم فَوْرا. هَذِه المؤسَّسات ترى فِي المترْجم جُزْءًا مِن منْظومتهَا الإبْداعيَّة، وأيَّ تَفرِيط فِي السِّرِّيَّة يَعُد إِخْلالا بِالْعَقْد اَلمهْنِي والالْتزام الأخْلاقيِّ.

إِنَّ الذَّكَاء الاصْطناعيَّ لَيْس عَدُوا لِلْمترْجم، لَكنَّه أَدَاة يَجِب أن تَستخْدِم بِعَقل واحْتراز. بَعْض المؤسَّسات بَدأَت تَعتَمِد أَنظِمة ذَكَاء اِصْطناعيٍّ مَحَليَّة تَعمَل دَاخِل شبكاتهَا المغْلقة دُون اِتِّصال خَارجِي، حِفاظًا على أَمْن البيانات. هَذِه النَّماذج اَلآمِنة يُمْكِن أن تَكُون عوْنًا لِلْمترْجم، شَرْط أن يُدْرِك الفرْق بَيْن الأدَاة المساعدة والتِّقْنيَّة اَلتِي تُهدِّد السِّرِّيَّة المهْنيَّة.

يَبقَى المجَال اَلوحِيد اَلذِي يَقِف فِيه الذَّكَاء الاصْطناعيُّ عاجزًا هُو التَّرْجمة الإبْداعيَّة، أو مَا يُعرَف بال Transcreation. فَتَرجمَة النُّصوص الأدبيَّة والْإعْلانات والشِّعارات تَحْتاج إِلى حِسٍّ لُغَوي وثقافيٍّ وإنْسانيٍّ لَا يُمْكِن برْمجته. اَلآلَة قد تَنتِج جُملَة صحيحَة، لَكِنهَا لَا تَستطِيع أن تَنقُل رُوح اَلنَّص أو أَثرِه النَّفْسيِّ. هُنَا يظلُّ الإنْسان سَيِّد الحرْفة، والْعَقْل اَلمبْدِع اَلذِي لَا يسْتبْدل.

أَيهَا المترْجم الشَّابُّ، التِّقْنيَّة لَيسَت بديلا عن ضَميرِك المهْنيِّ. لَا تَجعَل السُّهولة تُنْسِيك الأمانة، ولَا تَخلِط بَيْن التَّطَوُّر والتَّهوُّر. مِهنَتك قَائِمة على الثِّقَة، والسِّرِّيَّة، والدِّقَّة، والْمسْؤوليَّة. والذَّكاء الحقيقيُّ لَيْس فِي الأدَاة اَلتِي تسْتخْدمها، بل فِي وَعيِك بِحدودها.

Scroll to Top