في سياق عالميّ يتَّجه نحو تكثيف الجهود لتحقيق التَّنمية المستدامة، نغفل في العادة عن أحد أهمِّ الأدوات الَّتي تضمن العدالة في توزيع المعرفة، والمساواة في الوصول إلى الموارد، والتَّمكين الحقيقيُّ للفرد والمجتمع: التَّرجمة. فالتَّرجمة لم تعد وسيلة لتبادل الأدب والثَّقافة، بل أصبحت شرطًا ضروريًّا لتطبيق السِّياسات، ونقل العلوم، وتحقيق العدالة اللُّغويَّة والمعلوماتيَّة. من دونها، تبقَّى التَّنمية حكرًا على من يمتلك أدوات اللُّغة، وتقصَّى الشُّعوب الَّتي تعيش خارج دوائر الهيمنة المعرفيَّة واللُّغويَّة.

في قطاع التَّعليم مثلاً، لا يمكن تحقيق أيِّ تطوُّر حقيقيّ إذا ظلَّت المعرفة حبيسةً لغات لا يفهمها الطَّالب، ولا تتاح له بلغته الأمُّ. المناهج العلميَّة والتِّقنيَّة، وقواعد البيانات العالميَّة، والأبحاث الحديثة، كلُّها تحتاج إلى منظومات ترجمة متكاملة تضمَّن العدالة في الوصول. هذا لا يتطلَّب فقط ترجمة النُّصوص، بل أيضًا تكييفها ثقافيًّا ومعرفيًّا بما يلائم الواقع المحلِّيُّ. بدون هذا، نظلَّ أمام عمليَّة استيراد شكليّ للمعرفة لا يترتَّب عليها تغيير فعليّ في جودة التَّعليم أو مخرجاته.

أمَّا في قطاع الصِّحَّة، فقد كشفت الأزمات الصِّحِّيَّة الكبرى، مثل جائحة كوفيد- 19، أنَّ التَّرجمة تمثِّل فرقًا بين النَّجاة والموت. الدُّول الَّتي بادرت إلى تعريب البروتوكولات الطِّبِّيَّة، وترجمة رسائل التَّوعية الصِّحِّيَّة إلى اللُّغات المحلِّيَّة واللَّهجات، استطاعت أن تحدَّ من انتشار الوباء وتحمي الفئات الأكثر ضعفًا. التَّرجمة هنا تجاوزت دورها التَّقليديَّ، وأصبحت أداة لتمكين النَّاس من اتِّخاذ قرارات واعية بشأن حياتهم وصحَّتهم. التَّرجمة في هذا السِّياق ليست عمليَّةً لغويَّةً فقط، بل فعل إنسانيّ يتَّصل بحقِّ الإنسان في المعرفة.

في مجال الاقتصاد والعمل، من المستحيل بناء بيئة استثماريَّة مستدامة دون ترجمة دقيقة للتَّشريعات، والفرص، والإجراءات، ومحتوى التَّدريب المهنيِّ. المستثمر الأجنبيُّ لا يدخل سوقًا غامضةً، والموظَّف المحلِّيُّ لا يستفيد من فرص التَّأهيل ما لم تكن موضِّحةً بلغة واضحة ومألوفة. وهنا تظهر أهمِّيَّة التَّرجمة المتخصِّصة، ليس فقط بوصفها وسيلة جذب، بل باعتبارها أداة لخلق تكافؤ في الفرص، وضمان بيئة عمل تشمل الجميع. التَّرجمة تتيح حركة الأفراد، وتنقُّل المعرفة، وتدوير المهارات عبر الحدود.

حتَّى في ملفِّ المناخ، الَّذي ينظر إليه غالبًا بوصفه قضيَّةً بيئيَّةً بحتةً، لا يمكن فصل التَّرجمة عن العمل المناخيِّ. السِّياسات الدَّوليَّة الخاصَّة بخفض الانبعاثات، أو خطط التَّحوُّل إلى الطَّاقة المتجدِّدة، تفقَّد فعَّاليَّتها ما لم تترجم، وتشرح، وتبسط بلغة المجتمعات المعنيَّة. وهنا لا تكفي التَّرجمة الآليَّة، بل لا بدَّ من مترجمين يفهمون المفاهيم البيئيَّة والاصطلاحات المتخصِّصة، ويعيدون صياغتها بلغة تلامس الوعي المحلِّيِّ، وتخلق فهمًا حقيقيًّا لأسباب التَّغيُّر المناخيِّ وطرق التَّعامل معه. لا يمكن إحداث أثر بيئيّ ما لم نفهم النَّاس بلغاتهم.

التَّرجمة أيضًا تساهم في تعزيز ثقافة السَّلام، والتَّفاهم بين الشُّعوب، ومقاومة الرِّوايات المضلِّلة. لكنَّها لا تقوم بذلك تلقائيًّا. من يترجم يتحكَّم في الزَّاوية الَّتي يقدِّم بها النَّصُّ، في المفردات الَّتي تستخدم، في النَّبرة الَّتي تضفي. وهذا يجعل من التَّرجمة عملاً سياسيًّا بامتياز. من هنا، تزداد الحاجة إلى تعليم التَّرجمة بما يراعي البعد الأخلاقيُّ والاجتماعيُّ، لا فقط المهارات التِّقنيَّة. يجب أن ندرِّب المترجمين على تحمُّل مسؤوليَّتهم في تشكيل وعي المجتمعات، وعلى استخدام أدواتهم لصالح بناء عالم أكثر عدلاً، لا لتكريس الهيمنة.

التَّرجمة ليست محايدةً. هي اختيار. وكَّل اختيار لغويّ هو انحياز لموقف، لرؤية، لقيمة. من يختار أن يترجم، يختار أن يشارك، أن يفتح نافذةً، أن يربط عوالم مختلفةً. لذلك، فإنَّ الاستثمار في التَّرجمة هو استثمار في البنية التَّحتيَّة الإنسانيَّة للمجتمعات. لا تنميةً مستدامةً بدون عدالة لغويَّة. ولا عدالةً لغويَّةً بدون سياسات ترجمة واضحة، ومؤسَّسات متخصِّصة، وتمكين فعليّ للمترجمين.

في العالم العربيِّ، حيث تسعى الدُّول إلى تطوير خطط تنمويَّة طموحة في مجالات متعدِّدة، تبرز الحاجة إلى إعادة تقييم موقع التَّرجمة ضمن تلك الجهود. فالتَّحديث الحقيقيُّ لا يكتمل بمجرَّد تحديث البنية التَّحتيَّة أو استيراد الأجهزة، بل يتطلَّب امتلاك أدوات الفهم والتَّحليل بلغاتنا، وتوطين المعرفة بما ينسجم مع واقعنا. التَّرجمة ليست مرحلةً لاحقةً أو خطوة تنفيذيَّة ثانويَّة، بل هي جزء أصيل من صياغة السِّياسات، وتخطيط البرامج، وتحويل الأفكار العالميَّة إلى مشروعات قابلة للحياة. إنَّها الطَّاقة المعرفيَّة الَّتي تصل بين المواطن وصانع القرار، وتمنح التَّنمية معناها العمليَّ والثَّقافيَّ في آن واحد.

Scroll to Top