أتابع عن قرب انتشار الألفاظ غير اللَّائقة والتَّعابير السُّوقيَّة كالنَّار في الهشيم في كثير من الأفلام المصريَّة الحديثة. هذا الابتذال اللُّغويِّ لم يعد ظاهرةً عابرةً، بل تحوَّل إلى نمط مستمرّ يضعف قيمة اللُّغة العربيَّة ويؤثِّر سلبًا على الذَّوق العامِّ والهويَّة الثَّقافيَّة المصريَّة. لم تعد المشكلة محصورةً في ألفاظ نابية عابرة، بل أصبحت بنية الحوار في كثير من الأفلام تعتمد على السُّخرية الفجَّة، والإيحاءات الجنسيَّة، والشَّتائم، واللَّهجة السُّوقيَّة، ممَّا يثير تساؤلات جدِّيَّةً حول مستقبل اللُّغة والذَّوق العامِّ في السِّينما المصريَّة.
الملاحظ أنَّ هذا التَّحوُّل لم يأت فجأة. بل بدأ تدريجيًّا منذ مطلع الألفيَّة الجديدة، ثمَّ تسارع خلال العقد الأخير. أفلام مثل “عبده موتةً”، والألماني”، و”اللَّيُّ اختشوا ماتوا”، كانت من أوائل الأعمال الَّتي استخدمت لغة الشَّارع بشكل صادم دون رقابة تذكر، بدعوى الواقعيَّة والتَّمثيل الصَّادق للطَّبقات المهمَّشة. لكن الواقع أنَّ هذا التَّوجُّه لم يخدم قضايا هذه الطَّبقات، بل أسهم في ترسيخ صورة سلبيَّة عنها، وربطها تلقائيًّا بالشَّتائم والانحطاط اللَّفظيِّ.
أمَّا في الأفلام الأحدث، مثل”عمَّهم”، و”خطَّة مازنجر”، و” أبو نسب”، تجاوز الابتذال حدود اللهجة السُّوقيَّة ليطال البناء الدِّراميُّ والحبكة السَّرديَّة على نحو يفقد العمل تماسكه الفنِّيَّ. إذ تحوَّلت الحوارات إلى أدوات للتَّحقير، والسُّخرية من الجسد، وتكريس التَّنميط اللُّغويِّ والثَّقافيِّ، دون سند سرديّ أو مبرِّر فنِّيّ يضفي على هذا التَّوجُّه أيَّ شرعيَّة جماليَّة. وتتفاقم خطورة هذا النَّمط حين يتسرَّب إلى الخطاب اليوميِّ للأطفال والمراهقين، ويتحوَّل عبر مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ إلى ” ترند ” يكرِّس الرَّداءة ويعيد تشكيل مفاهيم النَّجاح والانتشار الجماهيريِّ، بعيدًا عن أيِّ اعتبار فنِّيّ أو أخلاقيّ.
صنَّاع هذه الأعمال غالبًا ما يبرِّرون ذلك بمقولات مثل: “نعكس الواقع”، أو “هذه هي لغة الشَّارع “، أو “الجمهور عايز كدُّه”. لكنَّ هذا التَّبرير يتجاهل حقيقةً أنَّ الفنَّ لا ينقل الواقع كما هو، بل يعيد تشكيله.
السِّينما الَّتي نقلت لنا لغة الرِّيف في أفلام مثل “ليلى بنت الرِّيف”، و”دعاء الكروان”، و”الزَّوجة الثَّانية” و”البوسطجيَّ” و”النَّداهة”، و”الأرض” و”أفواه وأرانب”، أو لغة الطَّبقات الشَّعبيَّة في أفلام مثل “العزيمة” و”السُّوق السَّوداء” و”شباب امرأة” و”بداية ونهاية” و”الأسطى حسن”، لم تكن فظَّةً أو مسيئة، بل كانت راقيةً، واضحةً، ومبنيَّة على احترام اللُّغة، واحترام المشاهد.
الابتذال اللُّغويِّ في السِّينما المصريَّة ليس مجرَّد ظاهرة عابرة، بل مؤشِّر على أزمة أعمق تتعلَّق بتشويه الذَّوق العامِّ، وتحويل اللُّغة من أداة تواصل إلى وسيلة استهزاء. إنَّ استمرار هذا الاتِّجاه يعني مزيدًا من الانحدار في الوعي الجماعيِّ، ويهدِّد اللُّغة العربيَّة بوصفها مكوِّنًا رئيسيًّا للهويَّة.
المطلوب اليوم ليس رقابةً بوليسيَّةً على الألفاظ، بل عودةً إلى الوعي بدور السِّينما في تشكيل الوجدان، وإلزام الكتاب والمخرجين بمسؤوليَّة ثقافيَّة قبل أيِّ حسابات تجاريَّة. فالفنُّ، في النِّهاية، إمَّا أن يرقى بالمجتمع أو يسهم في انحداره.
إنَّ ما تتعرَّض له اللُّغة العربيَّة في كثير من الأفلام المصريَّة الحديثة لا يندرج ضمن حرِّيَّة التَّعبير أو تجسيد الواقع، بل هو تخريب علنيّ للذَّوق العامِّ وتهديد مباشر للحماية اللُّغويَّة. ترك السِّينما بلا ضوابط لغويَّة أو رقابيَّة صارمة يسهم في تطبيع الابتذال، وتعميم الانحطاط، وزعزعة مكانة العربيَّة الفصحى والعامِّيَّة الرَّاقية معًا.
إنَّ الابتذال اللُّغويَّ في السِّينما المصريَّة لا يمثِّل مجرَّد تراجع فنِّيّ، بل يعكس أزمةً ثقافيَّةً تتجاوز شاشة العرض لتطال ملامح الهويَّة الجماعيَّة والذَّوق الجماليِّ للمجتمع. وبينما تتسارع مظاهر التَّشويه والتَّسطيح، تصبح حماية اللُّغة واجبًا وطنيًّا وضرورة وجوديَّة تمسُّ جوهر الوعي العامِّ. ومن هذا المنطلق، نناشد فخامة الرَّئيس عبد الفتَّاح السِّيسي، راعي مشروع الهويَّة الوطنيَّة، أن يوجِّه الجهات المعنيَّة، وعلى رأسها وزارة الثَّقافة والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، نحو وضع معايير لغويَّة صارمة في المحتوى الفنِّيِّ، وتفعيل آليَّات الرِّقابة الثَّقافيَّة بما يضمن حماية اللُّغة العربيَّة من مظاهر الانحدار داخل المنتج السِّينمائيِّ. كما نطالب النِّقابات الفنِّيَّة، والمراكز البحثيَّة، والجامعات، بالاضطلاع بدور فاعل في دعم هذه الحماية، عبر تدريب كتاب السِّيناريو والمخرجين على إنتاج أعمال راقية تحترم اللِّسان المصريَّ والعربيَّ معًا. فحماية اللُّغة ليست مجرَّد قضيَّة لغويَّة، بل قضيَّة أمن ثقافيّ ترتبط بالحاضر وتمتدُّ إلى المستقبل.

Scroll to Top