فِي عَالَم تَتَبدَّل فِيه التَّحالفات وتتصارع فِيه المصالح، جاء خِطَاب فَخامَة اَلرئِيس عَبْد الفتَّاح السِّيسي فِي قِمَّة شَرْم الشَّيْخ لِلسَّلَام يَوْم 13 أُكتُوبَر 2025 لِيقدِّم نموذَجًا مُخْتلِفًا فِي فنِّ إِدارة الخطَاب السِّياسيِّ. لَم يَكُن خِطابًا بُروتوكوليًّا، بل مُمَارسَة لُغَويَّة وَاعِية أعادتْ تَعرِيف الدَّوْر اَلمصْرِي فِي مِنطَقة مُضْطربة. مِن مَنظُور تَحلِيل الخطَاب النَّقْديِّ، يُمْكِن القوْل إِنَّ الخطَاب تَجاوُز حُدُود الحدث اَلآنِي، لِيصوغ رُؤيَة جَدِيدَة لِموْقع مِصْر فِي النِّظَام الإقْليميِّ والْعالميِّ.

الخطَاب اِعتمَد على بِنَاء هَادِئ ومتماسك، صِيغ بِلغة مُتوازنة تَجمَع بَيْن العقْلانيَّة والرَّمْزيَّة. اِسْتخْدم فَخامَة اَلرئِيس تَراكِيب لُغَويَّة تُؤسِّس لِمعْنى الاسْتمْراريَّة مِثْل “دَشنَت مِصْر مَسَار السَّلَام قَبْل نِصْف قَرْن واليوْم تُعيد مِصْر التَّأْكيد على خِيارِهَا الاسْتراتيجيِّ لِلسَّلام”. هذَا الرَّبْط بَيْن الماضي والْحاضر يُرسِّخ فِكْرَة الثَّبَات فِي اَلموْقِف المصْريِّ، ويعزِّز شَرعِية الخطَاب بِاعْتباره اِمْتدادًا لِتارِيخ طويل مِن الوساطة والْعقْلانيَّة السِّياسيَّة.

فِي ضَوْء نَظَريَّة (Fairclough، 1995) ، يُمْكِن تَفسِير الخطَاب بِاعْتباره أَدَاة لِإعادة إِنتَاج اَلقُوة الرَّمْزيَّة. فَفَخامَة اَلرئِيس لَم يَستخْدِم لُغَة الصِّرَاع أو الهيْمنة، بل لُغَة المسْؤوليَّة والتَّوازن. مِن خِلَال مُفردَات مِثْل “العدالة”، “الاسْتقْرار”، و”خِيَار السَّلام”، يُعَاد تَعرِيف اَلقُوة بِوصْفِهَا قُدرَة على الإقْناع لَا الإكْراه. هذَا التَّحَوُّل فِي الخطَاب يَعكِس اِنتِقال مِصْر مِن مَنطِق اَلقُوة الصُّلْبة إِلى مَنطِق اَلقُوة النَّاعمة، حَيْث تُمَارِس القيادة عَبْر المعْنى لَا عَبْر السِّلاح.

الخطَاب أيْضًا أَعَاد بِنَاء اَلهوِية الوطنيَّة المصْريَّة فِي سِيَاق دَولِي مُعَقد. داخليًّا، اِسْتخْدم ضمير الجماعة فِي “شَهِدنَا معًا” و”نُغْلِق صَفحَة أَلِيمَة” لِتوْلِيد شُعُور بِالْوحْدة بَيْن الدَّوْلة والشَّعْب. خارجيًّا، ظَهرَت مِصْر فِي الخطَاب كوسيط يَحظَى بِثقة جميع الأطْراف، قَادِر على إِدارة الحوَار دُون اِنحِياز أو تصْعيد. هُنَا يَتَجلَّى مَا يُسَميه (Fairclough، 1995) “الهيْمنة التَّوافقيَّة”، أيْ إِنتَاج سُلطَة قَائِمة على القبول الجماعيِّ لَا على فَرْض اَلرأْيِ. فِي هذَا الخطاب، تَتَجلَّى مِصْر كَدوْلَة تَمتَلِك عقْلا اِسْتراتيجيًّا وَرُؤيَة واضحَة، لَا كَدوْلَة تَحركِها الانْفعالات أو المواقف العارضة.

وفْقًا لِتحْلِيل (van Dijk، 2008) ، الخطَاب السِّياسيُّ لَا يَصِف الواقع فحسْب، بل يُعيد تشْكيله ذِهْنيًّا. فَخامَة اَلرئِيس نَقْل الصِّرَاع فِي غَزَّة مِن مُستَوَى سِياسيٍّ إِلى مُستَوَى إِنْسانيٍّ. حِين قال “خَسرَت الإنْسانيَّة الكثير”، كان يُوجِّه الإدْراك اَلْعام نَحْو بُعْد أخْلاقيٍّ يَتَجاوَز ثُنائِيَّة المنْتصر والْمهْزوم. بِهَذا التَّحوُّل، يَخرُج الخطَاب مِن أُسَر الجغْرافْيَا إِلى فَضَاء القيَم، وَيضَع مِصْر فِي مَوقِع الفاعل الأخْلاقيِّ اَلذِي يُدَافِع عن كَرامَة الإنْسان قَبْل مصالحه.

تَأتِي أَهَميَّة الخطَاب أيْضًا مِن قُدْرته على إِدارة التَّوازن تَحْت اَلضغْطِ. اِنْعقَدتْ اَلقِمة فِي ظِلِّ خِلافَات حَادَّة بَيْن قُوًى إِقْليميَّة ودوْليَّة، ومع ذَلِك حافظتْ مِصْر على مَوقعِها كوسيط يَحظَى بِالْقبول مِن جميع الأطْراف. تَجنُّب الخطَاب لُغَة اللَّوْم والْإدانة، واخْتَار مُقَاربَة عقْلانيَّة تَوازُن بَيْن الاعْتراف بِالْأزْمة والدَّعْوة إِلى تَحمُّل جَماعِي لِلْمسْؤوليَّة. كمَا حَافَظ على نَغمَة مُنضبطَة تُحَاكِي لُغَة المؤسَّسات الدَّوْليَّة، بِمَا يَعكِس إِدْراكًا واعيًا لِطبيعة الفضَاء الدِّبْلوماسيِّ العالميِّ. هَذِه المرونة اللُّغويَّة لَا تَعُد ضعْفًا فِي الموْقف، بل شكْلا مِن أَشكَال اَلقُوة الرَّمْزيَّة اَلتِي تُبْرِز مِصْر كصوْت لِلْعقْل فِي زمن التَّوتُّر.

جَانِب آخر مِن الخطَاب يَتَمثَّل فِي تَوظِيف الرَّمْزيَّة غَيْر اللَّفْظيَّة. مَنْح فَخامَة اَلرئِيس قِلادة النِّيل لِلرَّئِيس الأمْريكيِّ دُونالْد تِرامْب لَم يَكُن مُجرَّد بُروتوكول، بل رِسالة سِياسيَّةً. هذَا الفعْل يَقرَأ ضِمْن مَا يُسَميه  (Pierre Bourdieu، 1991) “اَلقُوة الرَّمْزيَّة الإيجابيَّة “، أيْ اِسْتخْدام الرُّموز لِتثْبِيتِ مَوقِع الدَّوْلة فِي شَبكَة العلاقات الدَّوْليَّة. القلادة هُنَا لَيسَت تكْريما، بل تَعبِير عن أنَّ مِصْر تَملِك اَلحَق فِي مَنْح الشَّرْعيَّة الرَّمْزيَّة لِلْفاعلين الآخرين، مَا يُعيد تموْضعهَا كَقوَّة اِعْتباريَّة لَا يُمْكِن تجاوزها.

تَحلِيل الخطَاب اَلنقْدِي يُوضِّح أنَّ اَلنَّص لَم يَبْن على الإقْناع المباشر، بل على اِسْتراتيجيَّة التَّضْمين غَيْر الصَّريح. لَم يُهَاجِم الخطَاب أَحَدا، لَكنَّه حمل رَسائِل وَاضِحة لِكلِّ طرف. لِلْولايات المتَّحدة، أَكَّد أنَّ مِصْر شريك لَا تَابِع. لِترْكِيَا وقطر، أَوضَح أنَّ القاهرة هِي بَوَّابة الشَّرْعيَّة السِّياسيَّة فِي المنْطقة. وللدَّاخل المصْريِّ، بعث بِرسالة مُفَادهَا أنَّ الدَّوْلة تُمَارِس دوْرهَا القياديَّ رَغْم الضُّغوط والاضْطرابات العالميَّة.

على المسْتوى الأعْمق، يَعكِس الخطَاب تحوُّلا فِي الطَّريقة اَلتِي تَستخْدِم بِهَا مِصْر اَللغَة السِّياسيَّة. بَعْد سَنَوات مِن الخطابات الدِّفاعيَّة المرْتبطة بِالْأَمْن الدَّاخليِّ، عاد الخطَاب اَلمصْرِي إِلى السَّاحة الدَّوْليَّة بِصَوت واثق. هَذِه اَلْعَودة لَا تَقُوم على التَّحدِّي، بل على اَلمنْطِق والاتِّزان. وَهِي تَعبِير عن نُضْج دِبْلوماسيٍّ يرى أنَّ مَوقِع مِصْر لَا يُسْتعَاد بِالشِّعارات، بل بِالْفِعْل اللُّغَويِّ المنظَّم.

فِي هذَا الإطار، يُمْكِن القوْل إِنَّ خِطَاب فَخامَة اَلرئِيس عَبْد الفتَّاح السِّيسي فِي شَرْم الشَّيْخ شَكْل نُقطَة تَحوُّل فِي الخطَاب السِّياسيِّ العربيِّ. فَهُو خِطَاب يَستَنِد إِلى التَّاريخ، ويتفاعل مع الحاضر، ويسْتشْرف المسْتقْبل بِلغة المسْؤوليَّة لَا الجدال. نجح فَخامَة اَلرئِيس فِي إِبرَاز صُورَة مِصْر كَقوَّة مُؤَثرَة تَستَمِد مكانتهَا مِن مِصْداقيَّتهَا وقدْرتهَا على بِنَاء خِطَاب عقْلانيٍّ فِي عَالَم يَمُوج بِالتَّوتُّر والصَّخب.

الخطابات السِّياسيَّة لَا تُقَاس بِمَا تَقولُه فقطْ، بل بِمَا تُحْدِثه مِن أثر فِي الوعْي الجمْعيِّ. خِطَاب فَخامَة اَلرئِيس فِي شَرْم الشَّيْخ أَثبَت أنَّ اَلكلِمة حِين تُقَال فِي اللَّحْظة المناسبة، يُمْكِن أن تَكُون أَدَاة دِبْلوماسيَّة تَعادَل جيْشًا مِن التَّحالفات. ومصْر، كمَا أَرَاد فَخامَة اَلرئِيس أن يُذكَر العالم، مَا زَالَت تَملِك هَذِه الأدَاة وَتَعرَّف كَيْف تسْتخْدمها.

حِفْظ اَللَّه مِصْر ورئيسهَا ٱلْجَسُورُ ٱلْمِقْدَامُ، حَارِس السِّيادة ودرْع الكرامة، وَسنَد اَلأُمة العربيَّة فِي مواقفهَا المصيريَّة، وَشَعبهَا العريق. وأبْقى اَلأُمة العربيَّة حِصْنًا لِلْكرامة والسِّيادة، لِتَظل رايتَهَا عاليَةً، وشعوبهَا آمنة مُطمْئنةً، تَنعَم بِالْأَمْن والسَّلام والاسْتقْرار.

Scroll to Top